بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٢
مقال الاسبوع – التوجه نحو الديمقراطية مرتبط بالتنمية من خلال التعليم والتصنيع والثورة التكنولوجية والتواصل الاجتماعي. يقود ذلك الى ارتفاع مستوى المعيشة والوعي السياسي والمطالبة بالحقوق السياسية والمشاركة. كبت هذه القوى من خلال اجراءات امنية يفرز صراع يؤخر التنمية والديمقراطية ويهدد الامن.
آراء حول العلاقة بين الديمقراطية والتنمية (2)
بينا في المقال السابق (اخبار الخليج 22-9-2022) عدد من الاراء حول العلاقة بين الديمقراطية والتنمية، نتطرق في هذا المقال الى الشواهد التاريخية الداعمة لما سبق، والاليات والمحددات المؤثرة في هذه العلاقة.
يبين التاريخ على مدى 500 سنة انه كلما زادت الدولة ثراءا كلما اتجهت نحو الديموقرطية واصبح احتمال التراجع اقل حدوثا. فمثلا في القرن السادس عشر تقدمت جمهورية هولندا واصبحت دولة عظمى لها مستعمرات بالرغم من صغر حجمها، كذلك الحال مع انجلترا التي سبقتها في التحول الديمقراطي والثورة الصناعية وسيطرت على مناطق كبيرة من العالم. هذا النجاح الاقتصادي كان مصدره تحول “ديمقراطي” ومن ثم فكري بروتستانتي اعطى النخب الاقتصادية موقعا اكبر في التفاوض مع الحكم والتأثير في السياسات والقوانين لصالح السوق والتنمية.
كذلك تمثل المانيا وايطاليا واليابان، وكوريا الجنوبية وتايوان لاحقا، امثلة على دول حققت نموا اقتصاديا، لكن لم يستقم نجاحها مع النظام السياسي، وسرعان ما تحولت نحو الديمقراطية. اما الصين فلا تمثل استثناءا حيث مازالت، من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي، تعتبر دولة متوسطة الدخل (اقل من 15,000 دولار). وقد تصل الى ما يسمى |مصيدة الدخل المتوسط” (middle income trap)، هناك من يرى انها بحاجة الى انفتاح لتحرير الفكر واطلاق عجلة الابتكار المحلي وزيادة الانتاجية وتحقيق مساواة اكبر في الدخل واكثر عدالة ليخلق زخما في المجتمع وقفزة نحو تجاوز مصيدة الدخل المتوسط. غير ان النظام السياسي يتوجس حاليا من الانفتاح، على الاقل في المدى المنظور، وخصوصا في المدن الرئيسية. ووفق رجل الاعمال داليون ري فان قيادتها تدرك ذلك، ووضعت استراتيجيتها بعيدة الامد على اساس السعي نحو التحول الديمقراطي.
خلاصة ذلك هي ان هناك علاقة بين الديمقراطية والتنمية، وهذه العلاقة اما انها سببية او علاقة ترابط تبادلية. نستخلص ان للتنمية تاثير على التحول الديمقراطي، وفي المقابل للديمقراطية تاثير كبير على نجاح التنمية من حيث استفادة معظم فئات المجتمع من التنمية وبالتالي تحقق ازدهار واستقرار اكبر، يساهم بدوره في تعزيز التنمية وتكريس الديمقراطية والارتقاء بالمجتمع وقد يمنع التراجع عن الديمقراطية. لكن ماهي الاليات التي تُحدث هذه العلاقة ومحدداتها؟
وفق عدد من الكتاب (دارن اشيموقلو وجيمس روبنسون، وغيرهم) هناك عوامل عدة تتاثر سلبا بغياب الديمقراطية وقد تلعب دورا كبيرا في تاخير التنمية او تراجعها. اول هذه العوامل قدرة الدولة على وضع الاستراتيجيات التنموية والاصلاحية وتنفيذ السياسات والقوانين ضمن مبدأ المنافسة والمساواة في الحقوق والواجبات. يعتمد ذلك على كفاءة مؤسساتها والتزامها بقيم المساءلة والمحاسبة والمساواة امام القانون. حيث ان سلامة السياسات تعتمد على مدى مناقشتها مجتمعيا والمشاركة في الحوار وتداول مختلف الاراء واعادة النظر في السياسات والقوانين لضمان ملاءمتها للمتغيرات التي تطرأ على المجتمع وفي الواقع السياسي والاقتصادي والفكري.
ثانيا، وقد يكون الاهم هو مستوى التعليم ودوره في بناء رأ المال البشري وتكوين مهارات تتناسب مع التغيرات المستقبلية للقرن الواحد والعشرين وخصوصا التفكير العلمي المنطقي وتشجيع الفكر النقدي والتحليل وحل المشاكل وقبول الاختلاف والتنوع. وهذا يعني بالدرجة الاولى الاهتمام بالتعليم وعدم تطويعه لتكريس فكر معين قد لا ينسجم مع متطلبات التنمية. يرتبط بالتعليم، العامل الثالث وهو حرية البحث العلمي واستقلال الجامعات وحريتها في نشر نتائج الابحاث وخصوصا في العلوم الانسانية. هذا يستوجب توفر المعلومات لاجراء دراسات تحلل اداء اجهزة الدولة المختلفة وتصويبها.
رابعا مساهمة المجتمع ومنظماته المختلفة ونقاباته العمالية في مناقشة القضايات والسياسات وتقييمها وعرضها للمساءلة والنقاش والحوار الفعال. خامسا وجود الفوارق في الثروة وفي التاثير السياسي. تدفع هذه الفوارق في اتجاه تقويض جهود التنمية كما تدعم التوجهات المتطرفة والشعبوية والتوترات السياسية وعدم الاستقرار. العامل الاخير هو كفاءة السوق في توزيع المنافع والتنافسية في تخصيص الموارد وارساء المناقصات بشفافية.
هذه كانت بعض عوامل تاثير الديمقراطية في التنمية. اما آليات تاثير التنمية في الديمقراطية فيلخصها (Daniel Treisman 2020) دانيل تريزمن في كتابة “التنمية الاقتصادية والديمقراطية” في ثلاث آليات. اولا التصنيع وتاثيره على المجتمع. حَوَّل انتشار التصنيع في القرن الثامن عشر المجتمعات من افراد يعملون في الزراعة والحرف اليدوية او المكاتب الخدمية الى جماعات كبيرة تعمل في مصانع تشترك في مصالح تجعلها في تواصل شبه مستمر في المصانع والشوارع والمدن، غير معتمدين على ملاك اراضي او على رجال الدين. مكنهم هذا التواصل من تشكيل اتحادات ونقابات عمالية تعمل على دعم مصالحهم مما دعم التحول الديمقراطي وزاد وتيرته.
ثانيا التعليم؛ تخلق التنمية طلب على التعليم لتشغيل مكائن الانتاج ومكاتب الخدمات وبيروقراطية الحكومات والارتقاء الاجتماعي ويحفز الابداع والابتكار ويعزز قيم المساواة والشفافيه. وفق مورتن ويزيارق (Murtin & Wacziarg (2014 “التحول الديمقراطي” ان انتشار الديمقراطية بين 1870 الى 2000 كان بسبب الزيادة في التعليم. كذلك يخلق التعليم سوق للصحافة والاعلام التي تحفز التفكير النقدي في التعامل مع قضايا المجتمع وخلق وعي جمعي يؤمن بالقيم الديمقراطية واهمية المشاركة السياسية.
ثالثا تغيير في طبيعة العمل مع تقدم الحداثة. اعتمدت المراحل الاولى من التصنيع على التكرار والرتابة، نمى بذلك الانضباط والاجماع. الان في اقتصاد المعرفة ازدات الحاجة للابتكار والفردانية والمرونة. اصبح العامل يتعامل مع الناس والمعلومات بدلا من الالة. في هذه الحالة تبرز قيم الفرد الذي يعبر عن نفسه اكثر من التعبير الجماعي. يتعاظم بذلك السعي للحرية الشخصية، وحرية الاختيار والرغبة في المشاركة السياسية، متبوعا بتنمية الديموقراطية. نجاح ذلك يتطلب اعلام داعم للتنمية والديمقراطية ومتطلبات الابداع والابتكار.