بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ٠٩ فبراير ٢٠٢٢
مقال الاسبوع – تقييم العمل ونشر النتائج للمجتمع اداة مهمة في تعزيز الثقة ينبغي ان تتبناها الدول لتساعد في تنفيذ استراتيجيتها، خصوصا عندما تتجاذب المصالح الاستحواذ على النفوذ والمال. التقييم تمارسه كثير من الدول المتقدمة والعربية ونسرد شيء من التجربة السعودية.
http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1284422
قياس الاداء على مستوى الحكومة .. التجربة السعودية
القياس هي حاجة انسانية لعبت دورا كبيرا في تطور البشرية وفي النشاط الاقتصادي. تعتمد التعاملات الانسانية على ثلاث عناصر الاول كلفة الانتاج والثاني القدرة على القياس وتقييم مواصفات السلع والخدمات موضوع التعامل والتاكد من صلاحيتها للغرض المراد منها، والثالث القدرة على حماية ملكية السلعة واحتكار حق التصرف فيها والاستفادة منها. والثلاثة يشكلون كلفة التعامل في المجتمع. وكلما كانت هذه الكلفة اقل كلما راج التعامل والتبادل بين الناس ونشط الاقتصاد. تتاثر هذه الكلفة بالقواعد المنظمة للتبادل من قوانين وانظمة (رسمية)، وتقاليد واعراف وعادات (ثقافية)، او ما يطلق عليه الاطار المؤسسي (Institutional Framework)، وتمثل في مجملها قيود على السلوك البشري. واحترامها هو اساس رواج التعاملات وتقدم الاداء الاقتصادي وتطور الحضارة الانسانية.
القياس، اذا، ليس ترف اداري وانما عنصر اساسي في الاستقرار والنمو الاقتصادي والتحضر الانساني، واداة تواصل تيسر التعاملات وبناء الثقة في المجتمع وتتطور مع تطور المجتمعات وتعقد الحياة. وهي اداة تواصل تمنح المسئول فرصة لتبيان نتيجة عمله للمستفيدين وغرس الاطمئنان في ان المسار في الاتجاه السليم وبالتالي اداة استقرار.
ينقسم القياس الى قسمين، الاول يقيس مخرجات العمل مثل جودة التعليم والصحة وتكلفتها واعداها، ونتائجها على مستوى العمالة مثلا وتاثيرها في انتاج المعرفة وتقدم المجتمع. وهذه مؤشرات تاريخية “(بعد الحدث) تبين نتائج عمليات وقرارات اتخذت في الماضي. الثاني مؤشرات مستقبلية تقيم محركات الاداء التي انتجت الخدمات من عمليات التعليم والمناهج والبنى التحتية من معارف وتدريب واكتساب معرفة ضمنية، وكذلك تقييم القدرات الادارية والقيادية والعلاقات العمالية، ومؤثرات الاطار المؤسسي مثل منظومة الحوافز وطبيعتها والقواعد الناظمة لها وتاثيرها على السلوك.
وبذلك تكون منظومة القياس اداة فعالة تساعد في تنفيذ الاستراتيجية، بل يذهب البعض الى ان سبب التقصير او الاخفاق في تنفيذ الرؤية والاستراتيجية او انحرافها عن مسارها هو غياب منظومة ادارة وقياس اداء شاملة لجوانب الاداء، متكاملة، متسقة ومتوافقة مع الاستراتيجية. في ضوء هذه الاهمية نستعرض التجربة السعودية.
تم انشاء مركز اداء الرياض (اداء) في 2016 تزامنا مع اعلان رؤية 2030 بناء على توصية المجلس الجديد للشئون الاقتصادية والتنمية بغرض معرفة الوضع الاقتصادي الراهن بدقة والى اين يقود هذا المسار، وتقييم التقدم في المسار الجديد. في نفس الوقت نشر ثقافة قياس الاداء في القطاع العام. يعتبر المركز نفسه انه في خدمة الحكومة والمجتمع ويقيس اداء الحكومة ورأي المواطن. يُصدر تقارير ربع سنوية بشان تنفيذ رؤية المملكة 2030، كما يتلقى بشكل مباشر تفاعل الجمهور على موقعه الالكتروني.
يقدم المركز للحكومة صورة واضحة عن سياساتها وبرامجها والنتائج المتحققة. وكذلك استقصاء رأي المواطن والمجتمع وهو ما يقوم به من خلال قياس رأي المستفيدين فيما يتعلق بجودة الخدمات المقدمة. كما يتيح للمواطنين تقديم مقترحاتهم وملاحظاتهم، بالاضافة الى برنامج المتسوق الخفي لتقييم جودة الخدمات. كذلك يقوم بتدريب موظفين (سفراء اداء) من خلال ورش وندوات ومنصة تعليم الكترونية متاحة لموظفي الحكومة. يرى المركز نفسه كشريك واداة تمكين للدفع في اتجاه تحسين القياس والمتابعة.
واجهت المركز العديد من التحديات اهمها جودة البيانات. فالبيانات هي المواد الخام التي يتعامل معها اي مركز لتقييم الاداء كما يحتاجها الباحثون والمهتمون بمتابعة الاداء والتقويم. فيقول المدير العام “ليس من السهل توفر بيانات دقيقة ومحكمة التوقيت ومتواترة تيسر استخدامها في اتخاذ القرارات، فهو تحدٍ مستمر”. التحدي الثاني ضعف ثقافة قياس الاداء على نطاق واسع داخل الاجهزة الحكومية مثل فهم محدود او قلة اهتمام بالشكل الذي تتطلبه الثقافة الادارية الفاعلة وكيفية تنفيذها، مما تطلب تدخل القيادة السياسية لتكريس الالتزام. التحدي الثالث كسب ثقة الوزارات والهيئات والذي يصب في الدور المزدوج الذي يقوم به المركز المتمثل في مراجعة وتدقيق الحسابات لضمان سلامة مؤشرات الاداء وفي نفس الوقت بناء القدرات ضمن المملكة مما يتطلب قدرا كبيرا من التوازن بين الحصول على البيانات وبث الطمأنينة في الجهات “المالكة” لها. والتحدي الرابع يتعلق باستقطاب رأس المال البشري في هذا المجال مما يستدعي الاستثمار في تدريب الموظفين على المدى البعيد للمساهمة في عملية ادارة وقياس الاداء وما ينتج عنها من تحولات في الفكر وفي الانتاج.
التطور المستقبلي المرتقب للمركز في نظر المدير العام يشمل عدة ابعاد، اولا تقديم رؤى حية وانية لمتخذ القرار على المستوى الاداري يتجاوز مجرد تقارير شهرية وربع سنوية. ثانيا استكمال العمل الجاري في رصد رضا المواطنين وجودة الخدمات، ومازال امامنا الكثير لتوسيع نطاق هذا الجهد وتحسين التفاعل بين المواطنين والحكومة. ثالثا ضرورة توسيع القدرة في تحليل البيانات ومنهجيات التنبؤ، اي القدرة على وضع المؤشرات اللاحقة المستقبلية. النجاح في ذلك سوف يحسن كثيرا من جودة عملية اتخاذ القرار. واخيرا نسعى الى دعم نقل المعارف وتبادلها، فالكثير من البلدان تواجه تحدي قياس الاداء في الاجهزة الحكومية بابعادها المختلفة، والفرص موجودة للتعلم من تجارب الاخرين من خلال المؤتمرات وتبادل الخبرات.
يوجه رئيس المركز العديد من النصائح المستقاة من تجربتهم اهمها ان البيانات لا تتسم بالكمال ولا ينبغي انتظار كمالها فتضيع الفرص. هذا يفرض مفاضلات تنطوي على القبول بنتائج نقص البيانات واخذه في الاعتبار. ثانيا ان الارادة السياسية عامل رئيسي، وكلما اتسمت بالتفكير التحليلي والاعتماد على النتائج في اتخاذ القرار كان الدافع اكبر للتقدم. ثالثا من المهم بناء علاقة شراكة مع الاجهزة والادارات العامة التنفيذية وتقديم ما يساعد في حل مشكلات الاداء، وخصوصا اجهزة مثل الاحصاء والرقابة. رابعا الانفتاح على انشطة الابتكار والتعاون والشفافية والتنوع في الطاقم الذي يدير المركز ليشمل خلفيات من القطاع الخاص والعام، ذكور واناث، ومن مختلف المناطق مما يعطي منظور اوسع لمفاهيم الاداء وشموليته. خامسا توخي البساطة في مواجهة الضغوط الناتجة من عدم امتلاك كل الاجابات والحلول ووقوع الاخطاء، المهم استخلاص العبر منها والمضي قدما. يبقى التحدي الاكبر لدول الخليج هو قياس التنويع الاقتصادي ومنظومة الابتكار وانتاج المعرفة ومنظومة الريادة.