نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. إرث الزعيم عبدالناصر والواقع العربي 

  تاريخ النشر :٢٩ يوليو ٢٠١٥ 

 بقلم: د. محمد عيسى الكويتي 

مقال الأسبوع- ما زلنا نعيش ارث الحقبة الناصرية وما شابها من صراعات وما أخفقت فيه من تأصيل لديمقراطية تمنح الشعوب حريتها وحقها في القرار. 

http://www.akhbar-alkhaleej.com/13641/article/34787.html

 في نهاية الستينيات كنت في بريطانيا مع مجموعة من الطلبة العرب نتابع ما كان يحدث حينها في ربيع عام 1967 وتطوراته السريعة التي سبقت الحرب. كنا شبابا عربا يملؤنا الأمل في تغيير الوضع العربي، وكان عبدالناصر هو الصورة المجسدة لهذا الأمل. نشاهد المقابلات التي كانت تدور مع أشهَر الإعلاميين، أمثال ديفيد فروست، فيزيدنا ذلك افتخارا بأمتنا العربية وبزعيمها. بدأت الحرب ودخلنا في وهم الإعلام العربي الذي كان يصور الجيش المصري على أعتاب تل ابيب، وأن الخطة هي امتصاص الصدمة الأولى، وأن الجيش مستعد لها. وماهي إلا أيام حتى بدت المواجع والألم من النكسة التي أحدثت شرخا عميقا في كرامة الأمة. 

 قبل الحرب تعرض عبدالناصر لمؤامرات ليس من أعدائه الخارجيين فحسب، بل حتى من إخوانه من بعض الحكام العرب الذين رأوا فيه تهديدا لكياناتهم، ودخل في صراعات على مصالح ضيقة لم ترَ الصورة الأكبر والغاية النهائية ولم تقدر أهمية الوحدة العربية وما تعنيه للأمن القومي العربي. بل تحالف أعداء الامة في سبيل الدفاع عن هذه المصالح الضيقة. والآن عندما نرى ما آل إليه الوضع العربي من تشرذم وضعف وصراع بين الشعوب والأنظمة، وبين الأنظمة بعضها مع بعض، وبين فئات الشعب في كل قطر عربي نتساءل هل إرث الحقبة الناصرية له يد فيما يحدث؟

 ظهر عبدالناصر في ظروف مغايرة عن ظروف اليوم، كانت الأمة العربية ترزح تحت الاستعمار الغربي المباشر وغير المباشر وكانت أولويات المرحلة هو التخلص من ذلك الاستعمار. عمل عبدالناصر مع بعض القادة العرب القوميين في حشد الأمة ضد هذا المستعمر حتى انتهت تلك الحقبة. ركز بعدها على بناء الموقف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي، ورأى أن هذه الصلابة تتحقق من خلال إحكام القبضة على المجتمع ورفض أي معارضة. ساعده في ذلك شخصيته ونزاهته وتفانيه للغاية التي آمن بها. سارت أغلب المجتمعات في ركب الدولة وأنشأت المؤسسات الأمنية المختلفة للسيطرة على الوضع الداخلي على حساب حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف.

 في مسيرته القصيرة نسبيا حقق عبدالناصر بعض أهداف الثورة من محاربة الفساد وإنهاء الإقطاع وإصلاح الجيش. لكنه فشل في تحقيق أهم هدف وهو إقامة الحياة الديمقراطية. واختار إقحام الجيش في السياسة وحل الأحزاب وقضى على التعددية السياسية. سار على نفس النهج معظم الدول العربية ولا تزال، وهذا هو سبب التشرذم والضعف والصراع على السلطة بأشكال وأساليب ومبررات مختلفة. هل كان بإمكانه أن يقيم حياة ديمقراطية سليمة كما فعل الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا؟ 

 قد تختلف الآراء حول ذلك. فهناك رأي بأن الوضع العربي في ذلك الوقت وطبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني والحشد الدولي ضده لم يكن ليفسح المجال للتركيز على الانفتاح وحرية الرأي والتعددية السياسية. 

 في حين هناك رأي آخر يقول إن الوضع كان مناسبا لو أنه عمل منذ البداية على تأسيس المؤسسات المساءلة وفسح المجال للإعلام للنقد وتخفيف القبضة الأمنية وإعطاء أمل بأن مرحلة الإعداد لن تطول. انقسم الثوار حينها بين من يرى عودة الجيش إلى ثكناته وإقامة دولة ديمقراطية وبين من يرى إلغاء الأحزاب وإعلان الجمهورية. لا نعرف إذا كان من ضمن الآراء التي طرحت حينها «مزج الفكرتين في أن يقوم الجيش بتأسيس الحياة الديمقراطية كخطوة مرحلية قبل أن يعود إلى ثكناته». من الصعب الحكم على مثل هذه الأمور بسبب عدم توافر المعلومات لكن النتيجة هي أننا نتحسر على عدم تمكن عبدالناصر من إقامة نظام ديمقراطي لانتشال الأمة من براثن الاستبداد والظلم الاجتماعي ونتائجه التي نراها اليوم في صراعات وحروب طائفية وتفتيت لكيانات الأمة التي قاتل عبدالناصر من أجل بنائها. ولو قدر لعبدالناصر أن يَطَّلع على الوضع اليوم لاقتنع بأن الأولوية كانت يجب أن تكون لبناء نظام ديمقراطي ينهي قضية الصراع على السلطة التي هي الداء اليوم في الأمة العربية، ويقبل بالمعارضة والمساءلة ودورهما المهم في تصحيح مسار أي نظام وتثبيت أركانه. ولكانت الأمة في وضع أفضل ولتحقق حلم الوحدة العربية.

 في وجود شخص نزيه مثل عبدالناصر تمكن النظام الأمني من الوقوف مع الفقراء وتحقيق عدالة اجتماعية نسبية لكن أي جهود تعتمد على شخص فإن مصيرها الفشل. فوجود حزب واحد سواء كان جمهوريا أو ملكيا يخلق حالة تحتاج إلى أجهزة أمنية لحمايتها. وغياب الرقابة والمحاسبة الشعبية على النظام وعلى هذه الأجهزة الأمنية تفتح مجال الفساد والتعدي على الحريات وتكميم الأفواه والمطالبة بالاصطفاف مع النظام في أي موقف. تزداد معها الحاجة إلى النفاق والتملق وإفساد قيم الأمة في العدالة والنزاهة. نتيجة لحكم الفرد سقطت الأمة العربية في خرافة تأليه الشخص والاعتماد على مخلص ينتشلها من القاع الذي بلغته. وكثير ما نسمع اليوم دعوات بأن يبعث للأمة مخلصا من أمثال عبدالناصر وصلاح الدين الأيوبي وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. 

 انقاذ الأمة لن يتم على يد أفراد، ولو قدر لفرد أن يأتي وينقذ الأمة مما هي فيه اليوم فإن الفرد لن يبقى مخلدا وستعود الأمة إلى ضعفها وتفككها كما حدث في تاريخ الأمم. الخلاص اليوم هو في النظام الديمقراطي التعددي التداولي الذي يعالج قضية الصراع على السلطة والثروة ويوسع خيارات الناس (الشباب بالذات) في تطلعاتهم وطموحاتهم في المناصب والقيادات السياسية والاقتصادية والإدارية وتفتح أمام الشباب جميع ميادين الإبداع والأحلام.

 الآن لم يبقَ لنا من إرث عبدالناصر سوى ذلك المشروع القومي العربي الذي يستحق أن نتشبث به ولكن ليس من خلال الحزب الواحد والرأي الواحد والزعيم الأوحد بل من خلال النضال نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية والفكرية والتسامح الديني وإقامة المجتمع الأخلاقي الذي يمجد قيم الحرية والعدالة والمساواة، ورفض تمجيد الفرد. وأن نتمسك بالمشروع من منطلق كونه مصلحة قومية ووطنية وليس شعارا عاطفيا. وأن نكرسه كمفهوم يحترم القوميات والأديان والمذاهب التي تعيش في وسط الأمة العربية وتنهل من ثقافتها الإسلامية.

 mkuwaiti@batelco.com.bh 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *