نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

اقتصاد المعرفة والتوجهات المستقبلية.. الإمارات مثالا

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الخميس ١٦ يوليو ٢٠٢٠ – 02:00

في تقريرِ المعرفةِ العالميِّ 2019 لمنظمةِ اليونسكو حصلتْ الإماراتُ على الترتيبِ الـ18 من بين 136 دولةً وبذلك تقدمتْ على كوريا الـ«20» وعلى فرنسا الـ«22» وإسبانيا الـ«30» وإيطاليا الـ«31». هذا المركزُ المتقدمُ يعودُ إلى تفوقِها في تكنولوجيا المعلوماتِ والاتصالاتِ والاقتصادِ والتعليمِ قبل الجامعي، تراجعتْ نسبيًّا في البحثِ العلمي. هذه نتائجُ مشرفةٌ لدولِ الخليجِ التي احتلتْ مراكزَ متقدمةً كذلك وإن كان الطريقُ مازال طويلا لترجمتِه إلى إنتاجٍ معرفيٍّ وصناعيّ وفكريّ. في الوقتِ نفسِه نجدُ أن معظمَ الدولِ العربيَّةِ تخلَّفت في هذا المؤشرِ وكان أكثرُ القطاعاتِ تراجعًا هو «قطاعُ البيئةِ التمكينية» التي شملت قضايا مثل كفاءة الإدارة والقدرات التنظيمية والحوكمة والمساءلة والشفافية وحرية التعبير. ووفقا لواضعي المؤشر فإن هذه القضايا تعدُّ قاعدةً أساسيَّةً لبناءِ القدراتِ المعرفيةِ الأخرى من بحثٍ علمي وتطويرِ وابتكار وجودة التعليم العالي والتعليم قبل الجامعي والأداء الاقتصادي بشكل عام.

في الأسبوع الماضي أصدر الشيخُ محمد بين راشد خطةَ الحكومةِ الإماراتية الجديدة والتي أقرت عددا من المبادئ التي تسعى إلى تحوُّلٍ مستقبلي يعزز دخولَ الإماراتِ في مجتمع واقتصاد المعرفة. من هذه المبادئ تصغيرُ حجم الحكومة بدمجِ بعضِ الهيئات مع بعضها واستخدام منصاتٍ رقمية لتقديم الخدمات، ونظرة مستقبلية تسعى إلى تطويرِ قطاعِ الصناعة بالدولة من خلال تعيين وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، وخلق مناصب لرؤساء تنفيذيين في قطاعات للعبور إلى المستقبل ومنها وزير دولة للاقتصادِ الرقمي والذكاء الاصطناعي ووزارتان للعنايةِ بالاستثمارِ في الأمن الغذائي وتطوير الثروةِ السمكية والحيوانية، وتعزيز موقع جهاز الإمارات للاستثمار.

الدمجُ والتعديلاتُ ليست لتقليصِ حجم الحكومة فهي تشمل 33 منصبًا بين وزير ووزير دولة. وحدد لهذه الحكومة مدة عام لأحداثِ التحولِ على الأقل في التفكير وفي وضع الخطوط الواضحة لمسيرة تكون فيها الإمارات مركزًا للأعمالِ والتجارةِ والسياحةِ في المنطقة. لكن التحوُّل الأكبر والمهم بالنسبة إلينا في الخليج هو التحوُّلُ الصناعي المتقدم. 

قبل أيام شهدت وكالةُ الفضاء الإماراتية إطلاق منصة «برنامج الفضاء العربي» الذي يؤمل منه بناء القدرات والخبرات والمهارات العربية في علوم وتقنيات الفضاء. يوفر هذا البرنامج للعلماء العرب والمواهب الابتكارية فرصة اكتساب المهارات المطلوبة للعمل في علوم الفضاء من خلال برنامج تدريب يستمر 3 سنوات يهدف إلى تأهيل الجيل القادم. والبرنامج التدريبي هذا يتزامن مع إطلاق «مسبار الأمل»، في 15 يوليو الجاري، والذي يمثّل ثمرة «مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ». يهدفُ المشروعُ إلى استكشافِ الفضاء وبناءِ صناعةٍ فضائية في المنطقة ويدفع بالقدراتِ الوطنية والخليجية في هذا المجال. والأمل في أن تتولد من هذا المشروع استثماراتٌ في المستقبل وخلق قدرات تنتج منتجاتٍ وخدمات متقدمة للسوق.

قد يكون الوقتُ مبكرا لمعرفةِ نتائج المشروع ولكن ما يهمنا هو طريقة التفكير التي تقود العملية. يقول الشيخُ محمد بن راشد إن الهدفَ هو حكومة أسرع في اتخاذ القرار وأكثر مواكبة للمتغيرات وأفضل في اقتناص الفرص وفي التعامل مع المرحلة الجديدة في تاريخنا. نفهم من عبارة «اقتناص الفرص» هو أن دورَ الحكومةِ ليس فقط تنظيم السوق ومعالجة إخفاقاته وخلق بيئة مواتية للتنافس والاستثمار ولكن يرى أن دورَ الحكومةِ يتعدى ذلك ويدخل في اقتناص الفرص التي تعني الريادة والمخاطرة والمشاركة في الخسارة والربح. تعني قيادة الاقتصاد وليس دورا منظما للقطاع الخاص، قبول أن يكون للدولة دورٌ استراتيجي أساسي وفاعلٌ في توجيهِ الاقتصادِ ونقله من مرحلة النفط إلى مرحلة ما بعد النفط. هذا يعني إدراك أن القطاعَ الخاص له دور ولكن لا يمكن أن يكون دورًا تحويليًّا وإنما هو دورٌ حذر يترقبُ الفرصَ ويتجنبُ المخاطرةَ الكبيرة.

هذا الدور الذي لعبته الحكومات الغربية وبالذات أمريكا في مشاريعها البحثية وأهدافها الاستراتيجية الكبرى التي مكَّنت الاقتصادَ الأمريكي من قيادة العالم، فعندما وضع الرئيس جون كيندي هدف «وضع رجل على القمر» لم يكن هذا الهدفُ ليتحققَ لولا التمويلُ السخيُّ للأبحاث الأساسية. وهذه الأبحاثُ أنتجت تكنولوجيا نستخدمها اليوم في الهواتف الذكية وشاشات اللمس والإنترنت وغيرها. بالإضافة إلى ذلك فإن الحكومةَ الأمريكية تستثمر في أبحاث صناعة الأدوية من خلال معهد الصحة الوطنية «NIH» كذلك استثمرت الحكومةُ الأمريكية في إقامة شركة في الطاقة الشمسية «Solyndro» التي فشلت، لكن مولت كذلك شركة تسلا «Tesla S» السيارة الكهربائية، بما يزيد على نصف مليار ونجحت، والآن هي من أنجح الشركات وارتفعت أسهمها أكثر من عشرة أضعاف. 

ما نستشفُه هنا من ملامح أن الاقتصادَ الإماراتي يسيرُ بخطواتٍ ثابتة نحو مستقبلٍ واعد ويعملون على تفعيله ليس فقط من خلال هذه التغيرات الوزارية ولكن من خلال مشاريع كبيرة تتحمل مسؤوليتها الحكومة نفسها. اقتصادات دول الخليج لديها فرصة للارتباط بالاقتصادين الكبيرين في المنطقة وهما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وبالتالي فإن التخطيطَ الاقتصادي على المدى البعيد لا بد وأن يضع ذلك في الاعتبار. لكن ما نوع الارتباط وكيف يتم وفي أي التوجهات والمجالات وما هو إسهام كل دولة؟، وكيف تصلح نظامها التعليمي ليواكب مرحلة إنتاج المعرفة؟ هذا ما تحتاج الحكومات إلى تدارسه ووضع التوجه والاستثمار فيه بجدية وبقوة. كذلك عليها الإسراع في إصلاحات البيئة التمكينية من ناحية ومن ناحية أخرى ألا تعتبر القطاع الخاص هو المحرك بل الشريك والدولة تقود في الخطوات الاستراتيجية الكبرى وتضع التوجهات وتستثمر فيما يعجز القطاع الخاص عن الاستثمار فيه ويتردد في اتخاذ المخاطرة وهذا حقه.

mkuwaiti@batelco.com.bh 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *