- التنمية الخليجية وضرورة الإصلاح الإداري
تاريخ النشر :٢١ سبتمبر ٢٠١٦
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
على المدى البعيد فإن الإصلاح الإداري يبدأ بإصلاح سياسي يؤسس للإصلاح الإداري ويقود الإصلاح الاقتصادي، وهذا ما يميز الشعوب عن بعضها في تفوقها التنموي. فمتى نبدأ؟
تناولنا في المقال السابق قضية الإصلاح الإداري لجعله يتواكب مع متطلبات التنمية والتنويع الاقتصادي الذي تسعى دول مجلس التعاون إلى تحقيقه منذ إصدار الاتفاقية الاقتصادية عام 1981. إلى الآن نتحدث عن تنويع مصادر الدخل، ومازلنا نشكو من ندرة القدرات الإدارية والابتكار والإبداع وحل المشاكل وإدارة الأولويات.
ذكرنا في المقال السابق ان الإصلاح الإداري المطلوب لا بد ان يبدأ بمراجعة شاملة لفلسفة وسياسة التعليم والتدريب وكذلك تحسين القواعد المؤسسية التي تحكم عملية التعيين في المناصب القيادية ووضع المعايير المؤسسية التي تستبعد الاعتبارات التي لا تعتمد على الكفاءة. يتعرض لموضوع إصلاح إدارة التنمية الدكتور محمد صادق في كتاب بعنوان التنمية في دول مجلس التعاون.
يرى الباحث ان نجاح الإدارة يعتمد إلى حد كبير على عنصرين: العنصر البشري والعنصر المؤسسي. بالنسبة للعنصر البشري فإن كل وظيفة تتطلب مهارات وقدرات محددة، ينبغي توافرها في الشخص الذي يشغلها ليتمكن من القيام بها وتحمل مسؤوليتها. ولعل مستوى المقدرة على العمل لمن يشغل الوظائف النيابية جدير باهتمام خاص، لكن مثل هذه الوظائف عادة ما تخضع لاعتبارات لا تخدم التنمية مثل المحسوبية والقرابة. إن ضعف مستوى بعض من يشغلون الوظائف القيادية له الأثر الأكبر في تعثر جهود التنمية. ويرى الكاتب أن المقدرة على العمل تتولد من تفاعل المعارف والمهارات والقيم والمقدرة على مواصلة التعلم وصوغ المواقف إزاء العمل والتغيير التي يكتسبها الأشخاص من التعليم والتدريب والخبرة العملية والرغبة في العمل. وهذه الظروف ومناخ العمل مهمة للقيادات الإدارية والعاملين الآخرين على السواء، وتتولد من سلامة العنصر المؤسسي.
العنصر المؤسسي الذي يخلق البيئة المجتمعية ومناخ العمل لا يقتصر على التنظيم داخل مؤسسة العمل نفسها، بل المقصود هو النظام العام للدولة من تنظيم سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وقوانين وعلاقات دستورية وحقوقية وقيمية. تتأثر الرغبة في العمل، وبالتالي الانتاجية، بمناخ العمل المادية والاجتماعية التي يخلقها العنصر المؤسسي الشامل وفق هذا التعريف.
يتطلب تحقيق الاتساق بين العنصر البشري والمؤسسي من خلال معرفة أنواع ومستويات المعارف والمهارات والقدرات اللازمة لعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وأنواع ومستويات مناهج وبرامج التعليم التي يمكن أن تقدم للطلبة هذه المهارات والمعارف والقدرات والقيم من جهة أخرى. إن حل طرفي هذه المعادلة المهمة والصعبة في آن واحد لا يتم بالتمني ولا بسياسات وقرارات مناسبات بل يحتاج إلى دراسات ميدانية جادة يتم على ضوئها رسم السياسات واتخاذ القرارات. لا نعتقد ان السبب في عدم الاتساق بين متطلبات العنصر البشري والعنصر المؤسسي هو عدم وجود معاهد تدريب فقط، بل المشكلة في توافر قيادات إدارية عليا تتمتع بقيم العمل والمسؤولية والمساءلة والمحاسبة والتي هي من السمات المؤسسية.
خلق السمات المؤسسية، كاستراتيجية لإصلاح إدارة التنمية، يمكن ان يمر بمراحل تبدأ من الممكن والمتاح إلى الأكثر تحديا. البداية هذه يمكن ان تشمل تحسين التنظيم وأساليب الإدارة وسياسات وقوانين الوظائف العامة والتخطيط والميزانية ومن المهم اتساق هذه العوامل مع متطلبات أدوار دول المجلس فمثلا يجري التوجه نحو ترشيد الانفاق، نجاح ذلك ينبغي ان يصاحبه إصلاح إداري يعكس هذا التوجه لتكون الاستفادة من الترشيد إلى أقصى حد ممكن. تجارب الدول في الإصلاح الإداري تشير إلى عدد من التوجهات:
أولا: تُقر المجتمعات التي سبقتنا في التنمية بأهمية نسج الترابط والتشابك بين النظام الإداري والنظام الاجتماعي السائد. لا نعتقد ان دول الخليج تنقصها المعرفة بمواطن الخلل في النظام الاجتماعي والسياسي والإداري، فقد تم وضع مقترحات من قبل العديد من الجهات. لكن التغيير المطلوب لا يحدث بمجرد معرفة عيوب الأوضاع القائمة، إذ لا بد من قرار سياسي يضع نواة الإصلاح ويدفع نحو الالتزام بأهدافه ونتائجه.
ثانيا: ان يكون الإصلاح عبر مجهود واع لتحقيق التنمية الوطنية يصل إلى عمق المشاكل. إن ثمرات الجهود التي تبذل لتحقيق الإصلاح تكون محدودة، مما لم تكن جزءا من جهود واسعة ترمي إلى إحداث تغييرات سياسية واجتماعية أشمل. كذلك فإن وعي القيادات المسؤولة عن إدارة سياسات التنمية بضرورة الإصلاح وفق هذا المفهوم الشمولي سوف يكون له تأثير كبير على نتائج التنمية.
ثالثا: وجود أهداف واضحة ومحددة بمعايير لقياس ومتابعة التقدم في الإصلاح وترسيخ تقاليد النهج العلمي تتوقف ثمرات جهود الإصلاح على مدى صحة وكفاية المعلومات وحرية تداولها وعرض نتائجها للنقد الحر.
رابعا: تتطلب عملية الإصلاح قيادة كفاءة عالية ورؤية مستقبلية مقتنعة بأهداف المجتمع وبالحاجة إلى الإصلاح، حيث تعتبر هذه القيادات العامل الأهم في النجاح.
خامسا: مرونة في النظام الإداري تسمح بالمراجعة المستمرة ووجود آليات لإحداث هذه المراجعة. الهدف من الإصلاح هو رفع كفاءة المؤسسات المعنية بإعداد وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبما أن مسؤوليات ومهام هذه المؤسسات تتوسع وتتنوع باستمرار بسبب ديناميكية عمليات التنمية الوطنية ومتغيرات في البيئة التنموية الخليجية والعالمية فإن الحاجة تدعو إلى ضمان استمرار اتساق كفاءتها مع متطلبات المسؤوليات والمهام الموكولة إليها بصفة مستمرة.
وأخيرا فإن مقدار ما يتحقق من نجاح في التنمية سوف يعتمد على القدرات الإدارية المتوافرة مدعومة بالقرار السياسي والتدريب والتجربة مما يجعلها عملية ديناميكية متصاعدة التأثير بشكل مستمر. وعدم توافر هذه القدرات يؤثر سلبا في برامج التنمية. أما على المدى البعيد فإن الإصلاح الإداري يبدأ بإصلاح سياسي يؤسس للإصلاح الإداري ويقود الإصلاح الاقتصادي، وهذا ما يميز الشعوب عن بعضها في تفوقها التنموي. فمتى نبدأ؟
mkuwiai@batelco.com.bh