نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. التنمية وتوطين التقنية في دول الخليج

تاريخ النشر : 28 يونيو  2009

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

في مقال سابق تطرقنا الى موضوع التنمية وسياسة البحث العلمي (اخبار الخليج 2 يونيو) وخلُصنا الى أهمية وجود استراتيجية بحثية خاصة، وجهة مسئولة عن وضع مثل هذه الاستراتيجية، ومصدر تمويل مشترك بين دول الخليج، وارادة سياسية تفعل هذا التوجه. وفي هذا المقال سوف نتطرق الى توطين التقنية والمعرفة وعناصر الاستراتيجية لتحقيق ذلك كما وردت في دراسة نشرتها مجلة الدراسات الاستراتيجية في عددها الخامس (ديسمبر 2006 ) والتي تتحدث عن توطين التقنية في دول الخليج. 

تُعرف الدراسة التقنية على انها “مجموعة من المعارف والمهارات والخبرات والوسائل والادوات اللازمة لتصنيع سلعة او تقديم خدمة بحيث يمكن استخدامها لتحسين حياة الانسان”. اما التوطين فتعرفها على انها عملية تشمل نقل التقنية والمعرفة بالاضافة الى استيعاب وتوليد او تطوير التقنية. وتتميز عن العلم بانها تفي “باغراض انسانية معينة ومحددة وقابلة لاعادة الانتاج والتكرار، اما العلم فهو “المعرفة بالاشياء والعالم كما هما”.

تشير الدراسة الى ان التقنية هي اولى الوسائل التي شكلت حياة الانسان منذ  اقدم العصور حيث اصبح الانسان صانعا بحكم الحاجة للتعامل مع البيئة ومعالجة المشاكل التي تواجهه في حياته وانشطة الاقتصادية مثل الصيد والزراعة. وفي الزمن الحديث شكلت التطبيقات العسكرية اكبر قوة دافعة لهذه الابحاث. فقد عمدت وزارة الدفاع الامريكية (البنتغون) الى تمويل نصف الابحاث العسكرية والمدنية. في الوقت ذاته فان قيمة ما انفقته دول الخليج على توريد التقنية في شكل سلع يفوق 100 مليار دولار في عام 2004 فقط، وان ما انفقته الدول العربية في العقدين الماضيين على مشاريع “تسليم المفاتيح” بلغ ترليونين (2 ترليون) دولار، وهذا المبلغ يساوي عشرين مرة مقدار خطة مارشال التي انقذت اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك نقول بان الدول العربية والخليجية قد فاتها قطار الثورة الصناعية ولا خيار لها الان الا ان تلحق بثورة التقنية والمعرفة بخطى متسارعة في معركة مصيرية للبقاء وهذا لن يتم عن طريق نقل التقنية والمعرفة بل لا بد من توطينها.

على مستوى العالم اثبتت التجارب السابقة ان التقنية المنقولة لا تستطيع الصمود في وجه المنافسة امام التقنية المبتكرة محليا. فنقل التقنية قد يدخلنا عصر التقنية والتمدن الظاهري كما هو واضح من اشكال المدن الخليجية وناطحات السحاب والاستخدامات للحواسب الالية وتقديم خدمات حكومية عن طريق الانترنت، ولكنه لا يستطيع نقلنا من التخلف والتبعية الى مصاف الدول الرائدة والمنتجة للتقنية. بالاضافة الى ذلك فان التقنية المنقولة سرعان ما تصبح قديمة بفعل التطور وسوف نضطر الى استيراد غيرها بتكلفة باهظة تستنزف مواردنا. وقد اتضح ذلك جليا من تجربة بحرينية حيث اتبعت شركات مثل البا وبابكو والبتروكيماويات وغيرها في نقل المعرفة على مشاريع تسليم المفتاح مما ادى الى عدم استيعاب التقنيات وتوطينها، على عكس ما حدث في كوريا ودول اسيوية اخرى.

فما هي عناصر الاسترتيجية القادرة على توطين التقنية والاستفادة منها في تطوير قدرتنا الانتاجية والابتكارية؟ تبين الدراسة بان التقنية يتم توطينها إما عن طريق الاستيراد (الشراء والنقل) او عن طريق الملكية (تطويرها محليا)، لذا فان اهم عناصر استراتيجية توطين التقنية هو وجود قدرات للبحث والتطوير تؤدي الى تفاعل وصهر التدريب بالتجربة والخبرة، بالاضافة الى التحلي بسلوكيات تتحكم في جودة وسعر وكفاءة المنتج، وادارة حكيمة لتطبيق الاستراتيجية قادرة على استخدام التقنية نفسها، وهذا ما يفسر نجاح المجتمعات الغربية. فهذه المجتمعات تمتلك مميزات تشمل نظم ومعايير وحوافز تطلق عملية التجديد والابتكار، ومؤسسات بحثية ومجتمعية تتفاعل لتحقيق التقدم التقني ضمن سياسة علمية وتقنية ترسمها وتطبقها الدولة. اما بالنسبة لدولنا العربية والخليجية فاننا نتعامل مع التقنية على انها سلعة يمكن نقلها بشكل منفرد دون الاهتمام بالمنظومة المساندة لها بما في ذلك الاطار السياسي وحرية البحث والنشر. بل ويعتقد الكثير من المسئولين بان استيراد المعدات الحديثة كافٍ لاحداث التنمية دون الاهتمام بالمعرفة والخبرة المصاحبة لذلك. فتجارب الدول العربية في التصنيع اهتمت بنقل خطوط الانتاج دون التقنية نفسها مما ادى الى ثبات هذه المنتجات عند مستوى معين من الجودة والتنوع فاصبحت غير قادرة على منافسة مثيلاتها في الصناعات الغربية. كما ان امتلاك مواد خام هامة لا يضمن استمرار الريادة. فصناعة القطن المصرية فقدت ريادتها للصناعة السويسرية بالرغم من كون القطن المصري اجود انواع القطن. كذلك فان استيراد الخبرات والعمالة الماهرة لا يساعد على نقل التقنية مالم تصاحبه خطة احلال تُصر على نقل الخبرة والمعرفة لقوى وطنية تعمل بجانب الخبرات الاجنبية في جميع مراحل التنفيذ والتشغيل والتطوير. كما تشمل تطوير البنية التحتية الصناعية، من نقل ومواصلات والاتصالات، بالاضافة الى مقومات بنية تحتية اخرى مثل التعليم الاساسي والفني والجامعي. اي ان التقنية هي منظومة متكاملة يتعين استيعابها وتملهكا جميعها.

والان اين نحن من هذه المنظومة المتكاملة القادرة على خلق وانتاج المعرفة ؟ ومن هي الجهة المسئولة عن توطينها؟ ومتى سيتم ذلك؟ لم تتطرق الاستراتيجيات المنشورة في الصحافة الى هذه التساؤلات باستثناء ما ورد في دراسة قدمتها شركة ارثر دولتل الاستشارية والتي ذكرت البحث العلمي والتطوير في احد محاورها دون ان تحدد الجهات المسئولة عن ذلك. ولا يكفي ان نقول ان هناك استراتيجية دون ان تكون منشورة ويطلع عليها الجميع للاستفادة منها والمساهمة تحقيقها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *