نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

بقلم د. محمد عيسى الكويتي

19 مايو 2020

هل يمكن للدول العربية ان تقوم باصلاح سياسي واقتصادي قبل اصلاح الفكر الديني ؟؟

في ضوء ما تمر به الامة من تخلف علمي ومعرفي وتكنولوجي واقتصادي جعل الامة العربية تابعة للغرب في كل مجالات الحياة. فهي تعتمد على الغرب في كل مستلزمات حياتها ووجودها وتعتمد على استيراد كل ما تحتاجه مما يجعلها رهينة في يد مزوديها غير قادرة على الدفاع عن حقوق شعوبها وعن قضاياها المصيرية. في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين برز تيار تنويري حاول الخروج من هذه الازمة وانتكس في الخمسينات. وتستمر الازمة وتتعدد الرؤى حول الخروج منها. هناك من يرى ان الاصلاح الاقتصادي هو المخرج, حيث ان ذلك سوف يخلق طبقة متوسطة فاعلة وقادرة على المطالبة بحقوقها واستقلالها وحريتها السياسية في تحديد دستورها ونظام حكمها. وقد قامت ثورات الربيع العربي وفق هذا المنظور ابتداء من تونس التي بها طبقة متوسطة كبيرة ومنطمات مجتمع مدني متطورة طالبت باصلاحات اقتصادية ومعيشية تطورت الى مطالب سياسية وتمكنت من تحقيق تطور نسبي في تقدمها السياسي. لكن هل هذا سوف يوصلها الى التقدم في المجالات العلمية والتقنية والتحول نحو مجتمع المعرفة؟

وهناك من يرى ان الخروج من الازمة يحتاج الى اصلاح سياسي جذري تتحول بواسطة الدول العربية الى ديمقراطيات ليبرالية تقوم على مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية. هذا التيار يحتار في كيفية البدء في الاصلاح السياسي، هل يتم من قبل الحكومات نفسها بالتدرج او يتم من خلال تحركات شعبية تقدمية تفرض ارادتها سلميا على الحكومات كما هي المحاولة في لبنان مثلا وتجبر المؤسسة السياسية على اصلاحات جوهرية في نظام الحكم.

وهناك من يرى بان هذا الاصلاح لن يتم ما لم يسبقه اصلاح فكري، ثقافي وديني يعيد الحرية للانسان في الاختلاف ويمنحه حق المساءلة وطرح البدائل عن القضايا الفقهية التقليدية التي حكمت الفكر والوعي العربي المسلم على مدى عشرة قرون او اكثر، منذ البيان القادري الذي اسس لعقيدة السنة والجماعة ومعه التحولات في العقيدة الشيعية. هذا التيار يرى الاصلاح في المطالبة بفتح باب الاجتهاد ورفض التراث التقليدي واستعادة الصدارة للقرآن في التشريع ورفض مبدأ القياس والاجماع الذي حول العقل العربي اى عقل قياس عاجز عن الابتكار، ومنع الانسان حق التدبر واحتكر التفسير والتاويل وفرض رؤية واحدة وضعها فقهاء وعلماء اجتهدوا لعصورهم ووفق ظروف حياتهم وعلاقاتهم السياسية والاجتماعية وسقفهم المعرفي في فترة من تاريخ الامة لعبت الحروب الاهلية والنزاعات فعلها في تسيير الفكر والعقل وتوظيف الدين في السياسة. الان اصبح من الضروري تجديد هذه الرؤية لانها تخنق العقل وتشل التفكير وترفض الابتكار والابداع وتشيع ثقافة الاستسلام والخنوع والقناعة الزائفة.

الظاهر ان هناك علاقة جدلية بين الثلاث محاور للاصلاح. فايهم المفتاح في التطور؟ هذه المحاور الثلاث تمثلها ثلاث قوى متحكمة في مصير الامة. وهناك تحالف بين هذه الثلاث قوى في الوطن العربي. تحالف بين القوي السياسية والقوي الاقتصادية والقوي الدينية. تقول اليزابيث جاكوب في كتاب (After Piketty,p512) “بان القوة السياسية تجلب القوة الاقتصادية والقوة الاقتصادية تعزز وتزيد من القوة السياسية وهذه دائرة مغلقة تصاعدية في صالح تكريس السلطة السياسية وتركيز القوة الاقتصادية من الصعب كسرها”. واذا ما اضيفت لها السلطة الدينية يصبح الخلاص من قبضتها مهمة عسيرة جدا.

استفاد الغرب في نهضته من الصراع بين السلطة الدينية (الكنيسة) والملوك (السلطة السياسية) وبين الاقطاعيين (السلطة المالية) في العصور الوسطى وحتى بدايات عصر النهضة. هذا الصراع الثلاثي اضعف الاطراف المتصارعة وتمكنت الطبقة المتوسطة بفضل الثورة العلمية والفكرية والدينية والصناعية ان تفرض ارادتها تدريجيا في بريطانيا وثوريا في فرنسا. في حين نجد ان التجربة الاسلامية سارت على عكس هذا المسار. فقد هيمنت السلطة السياسية على السلطة الدينية وجعلتها في خدمتها منذ البدايات، وتمكنت من السيطرة على المال لاخضاع المجتمع بالترغيب والترهيب. حدث ذلك في جميع مراحل الحكم مع القليل من الاستثناءات التي لم تؤثر على مسار التاريخ. في هذه الاحوال المعقدة كيف يمكن للوطن العربي ان يخرج من هذا المأزق الثلاثي  وماهو المزيج والتراكم والتدرج المطلوب للتغلب على هذا التحالف؟

في تقرير الامم المتحدة حول المعرفة لعام 2003 يرى التقرير الذي شارك في وضعه مفكرين وكتاب عرب في ان الطريق وعر وشاق ويحتاج الى مقاربة ثلاثية المحاور: يرى التقرير بان الاصلاح الاقتصادي مرتبط بالقدرة على انتاج المعرفة وهذا يحتاج الى مجتمع قوي وتبلور ارادة سياسية تهيئ الارضية لمنظومة انتاج المعرفة بدءا ببناء رأس مال بشري وبناء مؤسسي، اي ان الاصلاح الاقتصادي مرتهن بقرار سياسي يضع الاسس البنيوية والاخلاقية والقيمية من حريات وانفتاح تسمح بالبحث العلمي الحر ونشر نتائجه دون تعرضه لرقابة مؤسسية وذاتية. ويجد ان المشكلة تكمن في امكانية نشر نتائج الابحاث في العلوم الانسانية والاجتماعية والثقافية التي لا بد وان تصطدم بالثقافة الدينية السائدة والمنظومة السياسية القائمة. فيقول بان “المعرفة لا تنشأ في فراغ مجتمعي ولكن في مجتمع له واقع وتاريخ وسياق اقليمي وعالمي، وهذا الاخير له اهمية كبيرة في حالة الوطن العربي”.

يتراوح السياق العام في الوطن العربي بين الاستبداد المطلق والاستبداد المقنن والديمقراطية الاجرائية النسبية. وهناك منطقة رمادية يسميه البعض التحول الديمقراطي. هذا النموذج يحتاج الى سنوات ان لم يكن اجيال لكي يؤسس ثقافة الديمقراطية مكان ثقافة الاستبداد. هذا اذا توافرت له منظومة تعليمية صالحة واعلام منفتح وحرية فكرية ترتكز على تشريعات تحمي حرية الرأي والفكر والابداع، وحرية الاعتقاد. يمكن لهذا التوجه ان ينشر ثقافة حقوق الانسان والتعددية وقبول الاخر المختلف في الدين والمذهب والفكر. لكن هل ستسمح الانظمة بتاصيل ثقافة الديمقراطية التي قد تقتلعها في المستقبل؟

هل التعويل على وعي الشعب ممكن وقائم؟ وكيف سيتأسس هذا الوعي في ظل اعلام مهيمن على الساحة الثقافية والفكرية والعقائدية ويغذي الشعب اما بالتطرف الديني القائم على الارهاب والقتل واما على الخنوع والطاعة العمياء. دون ان تكون هناك حلول وسط، وخصوصا في  الدول الكبيرة المؤثرة في الوطن العربي التي تخضع تحت هذه الانواع من الانظمة. 

التيار الذي يقول بالاصلاح السياسي (في صيغته المحافظة المتدرجة) يعقد الامل على الدول الملكية التي تستند الى شرعية تاريخية قوية والى شعوب اكتسبت مستوى من التعليم، وطبقة وسطى حية في بعضها ان تقوم هذه الانظمة باصلاحات اجرائية تفتح المجال امام اصلاحات قيمية ودستورية تمنح حقوق سياسية اكثر مواءمة مع متطلبات النزاهة والشفافية وحرية الرأي والاختلاف والتعددية. العامل الاخر الذي قد  يسرع من هذه العملية بشكل متدرج هو التحول من الاقتصاد النفطي الريعي الى اقتصاد انتاجي يفتح مجال للصناعة ان توسع من الطبقة الوسطى وتربط مصيرها باعادة توزيع الثروة والاستثمار في المعرفة والانتاج والابتكار.

يدعم هذه التيار ما قاله المفكر فهمي هويدي أن “الإصلاح الديني مهم ولا غنى عنه، ولكن الإصلاح السياسي أهم”، كون الأخير يخلق مناخات حرّة تنعش الحوار “ما يحرك ركود حركة الاجتهاد والتجديد”.  وتابع أن “الاستبداد بمختلف تجلياته كان أحد أهم المصادر التي فرضت العنف المستند إلى المرجعية الدينية. ذلك أن انسداد قنوات التعبير السلمي دفعت بعضاً من النشطاء المتحمسين إلى محاولة التغيير باستخدام العنف”. من جانبه، اعتبر الباحث السوري جاد الكريم الجباعي أن “العصبية هي كلمة السر في التحليل الاجتماعي التاريخي، لا الدين… لذلك نعتقد أن إصلاح السياسة يفضي إلى إصلاح ديني، لا العكس”.

غير ان هناك تيار قوي يقول بان الاصلاح الديني هو الاهم والاساس الذي يحرر الشعوب من قبضة رجال الدين، مقتنعا بان تحرير الفكر هو الاهم. هذا التيار يزداد قوة وجرأة في الطرح ويدعو الى استعادة المركزية في الدين الاسلامي للقرآن الكريم معتمدين على اقوال الفقهاء الاوائل الذين قبلوا الاختلاف والتعدد الفكري بالرغم من التاثير السياسي منذ بدايات العهد الراشدي. هذا الجدل كاد ان يحسم لصالح الاصلاح السياسي في الربيع العربي لولا تدخل المحور الثالث في  التحالف وهو المحو المالي الذي اعاد المجتمعات العربية الى ما قبل المربع الاول ليبدأ من جديد يطرح السؤال ايهم اولا؟ وهل هذا هو السؤال المناسب ام ان الافضل كيف يكون التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة لتحقيق نتيجة التقدم الذي تستحقه الامة؟

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *