- «الربيع العربي» والتحديات الثقافية
تاريخ النشر :١٧ أكتوبر ٢٠١٢
بقلم: د.محمد عيسى الكويتي
مقال اليوم- التحديات التي تواجه الامة اليوم متعددة منها هذا الاستعداد المذهل لتقبل الاشاعات والاقاويل والفرضيات على انها مسلمات دون ان يناقشها عقليا ويحولها الى حقائق . الانسان متى ما اغلغ افق الحوار وتقبل الافكار وتفحص ما يسمع وتعريضه للنقد والاستماع الى الرأي الاخر يصبح خطر على الامة وهذا بداية التطرف الديني والفكري والسياسي.
تمر الأمة العربية في هذه المرحلة بتحولات لم يشهد لها تاريخنا العربي مثيلا، وقد تنظر الأجيال القادمة الى ما حدث وتحسد هذا الجيل على ما يخوض من تجربة غير مسبوقة في تاريخ الأمة. ما حدث من ثورات سابقة كانت تقودها جيوش، او كانت محدودة التأثير في دول محددة، اما ما يحدث اليوم فهي تحولات جذرية في المجتمعات ثارت على اوضاع مجتمعية حكمت العلاقات بين مكونات المجتمع وبين القوى المؤثرة فيه، كما ثارت على فساد العلاقة بين المال والسياسة وبين الدين والدولة، وثارت على أوضاع معيشية وقيمية أخضعتهم لثنائيات بين الفقر والغنى، وبين النزاهة والفساد، وبين العدل والاستبداد.
كتبنا في مقالين سابقين عن التحديات التي تواجه المجتمعات العربية في هذه الفترة التاريخية التي تمر بها الأمة. هذه التحديات تتطلب معالجة جذرية وبحثا في حلول ومبادرات تخرج الأمة من ازمتها الراهنة. الحل قد يطول سنوات يفوق صبر الكثير من الناس. في نقاش مع احد الزملاء (نائب سابق عربي) يقول ان الديمقراطية خذلت الأمة، ويقصد بها تلك الديمقراطية التي خدعنا بها حكام الدكتاتوريات التي جرفها الربيع العربي وديمقراطية بعض النظم، او تلك التي يتغنى بها النظام العراقي الحالي، ويرفض قبول اي رأي آخر يدعو الى ديمقراطية تقوم على ارادة الشعب كما تتشكل الان في مصر وتونس وليبيا. عدم الايمان بالديمقراطية ومساهمتها في احداث التحولات البطيئة من قبل قطاعات كبيرة يشكل تحديا ثقافيا نتمنى ان يتحلى العرب بالاستعداد للدفاع عنه لجني ثمار الانفتاح والديمقراطية.
التحدي الآخر الذي يواجه المجتمعات هو في نمط ومنهج التفكير في قبول ما يسمع وما يكرره الاخرون والوصول من خلاله الى نتائج والايمان بها من دون ان تعريضها للفحص والتمحيص. تطرح في المجتمع شائعات وفرضيات واتهامات في شكل عبارات تطلقها هذه الجهة في وصف اخرى وتعتبرها مسلمات غير قابلة للنقاش. فمثلا هناك فرضيات عن اسباب الازمات والجهات المسئولة عنها وحدود مسئوليتها، وتُروج فرضيات عن طبيعة المشاكل التي تعانيها المجتمعات وما اذا كانت سياسية ام عرقية ام طائفية.
هناك فرضيات عن دور الحكومات ومساهماتها في هذه الازمات، وفرضيات عن دور القوى العالمية والاقليمية في ايجاد او استغلال هذه الازمات، وهناك فرضيات عن اسباب فشل الدول في تجذير مفهوم المواطنة وقيم العدالة والمساواة.
مازالت مجتمعاتنا العربية التي تنازع في الربيع العربي تتبنى اجابات معلبة وجاهزة للأسئلة المطروحة وغيرها على انها صحيحة وتعتبرها مسلمات وحقائق. فشلت المجتمعات في اخضاع هذه الفرضيات للتمحيص والفحص والاختبار والتوصل الى اجابات عقلانية تخرج الامة من ازماتها. يتم ذلك على الرغم من وجود شواهد واحداث وتواريخ اخرى قد تدحض هذه الاستنتاجات والفرضيات وكل ما يترتب عليها من قناعات. هذه العقلية التي تنتشر في مجتمعات عربية كثيرة هي احد اهم التحديات التي تواجه التنمية وتواجه المسيرة الديمقراطية وتواجه التوصل الى حلول عادلة تنهي حالات الاقتتال والخلافات وتؤسس لتقبل الآخر على انه شريك في المجتمع. ان المجتمع الذي لديه استعداد مذهل لتصديق الشائعات، هو مجتمع يدعم التعصب ويربي الكراهية وتنتظره صدمات وازمات واحتراب وانحدار في منزلق الى هاوية غير معروفة المصير.
هذه العقلية تنافي حصيلة الفكر الانساني الذي يلخصها الامام الشافعي في مقولته «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب»، فأين نحن من هذه المقولة التي استبدلناها بأن «ما اريد ان اصدقه هو الصواب وماعداه كفر وجحود».
يزخر التاريخ الاسلامي بالحالات التي ترفع من شأن الاختلاف في الآراء وقبول هذا الاختلاف. يقوم الفكر الانساني على المبدأ نفسه الذي يضع العقل والمنطق حكما بين آراء الناس، حتى من يختلف معه فانه يحجم عن انكار رأي الآخر ويحتفظ له بأحقيته في طرحه. يمتاز العقل الانساني بالقدرة على التفكير والتمييز، والانسان مخير في تعطيل هذه القدرة او استخدامها في اخضاع ما يسمع الى التمحيص العقلي والمنطقي ويعرضه للقياس والمقارنة العادلة، وليست مقارنة مجحفة (كمن يقيس البيض على البيديان). متى ما فعل ذلك فانه يصل الى نتيجة توصف بأنها منطقية، غير انها ليست حقيقة ثابتة لا تقبل الشك ولا تتعرض للمراجعة.
المنهج الذي يعتمد على العقل حرر الانسان من التبعية الفكرية للآخر، كما منحه حرية التفكير والنقاش والتوصل الى نتيجة. هذه النتيجة بالضرورة هي حصيلة فكرية لا يجوز اعتبارها حقيقة ثابتة، وانما هي نظرية لم يدحضها احد، وتبقى قائمة ومعروضة للمجادلة والشك والدحض. يقول الفيلسوف الانجليزي جون لوك ان «الانسان العاقل يحتفظ برأيه مع شيء من الشك في هذا الرأي»، هذا الشك في الموقف يتيح له امكانية تقبل المحاججة الاخرى والرأي الآخر، والعدول متى ما تبين خطأ ما يرى. اما من يعتقد انه مصيب مائة في المائة وان ما يراه حقيقة لا تحتمل الخطأ وليس لديه استعداد لمراجعة هذه القناعات او الاستماع الى اي مؤشرات تدل في الاتجاه الآخر، فهو تعنت عدم الواثق ومدخل الجهل». فهل تتغير هذه العقلية بنجاح الثورات العربية وتغيير أسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟