المرحلة الانتقالية وتحديات التحول نحو الدولة المنتجة (3)
استكمالا لمقالنا السابق ذكرنا عدد من القضايا التي نرى ان يهتم بطرحها مجلس النواب للمناقشة في هذه المرحلة الانتقالية نحو الدولة الإنتاجية وهي تحسين مستوى المعيشة وقضية معالجة البطالة وخصوصا بين الشباب، وقضية توسيع القاعدة الإنتاجية لتنويع الاقتصاد وقضية التعليم والتدريب والبحث العلمي.
مناقشة مثل هذه القضايا يخلق وعي مجتمعي كما ان المناقشة ستفيد المجتمع والدولة والمواطن من التفاعل فيما بين هذه القضايا وبين متطلبات المشروع الإصلاحي لجلالة الملك بشكل عام. ولكي يكون النقاش مؤطرا ومثمرا نرى ان يستند على مرتكزين هما:1- الامن والاستقرار في البلد هو عماد التنمية وتحسين معيشة الفرد وضمان تقدمه وسعادته، وان يشمل الامن الأرواح والممتلكات بما فيها الأملاك العامة للدولة والملكية الفكرية.2- توازن بين سلطة الدولة وحيوية المجتمع. قوة الدولة تحفظ الامن من خلال تطبق القوانين العادلة على الجميع بالتساوي، وتقدم الخدمات النوعية والتي تتناسب مع ثرواتنا وانتاجيتنا. وحيويته المجتمع تساهم في العملية السياسية وتمكنه من مراقبة الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية من خلال مؤسساته المدعومة بحرية الصحافة وحرية التنظيم وحرية الحراك السياسي.
تمثل هذه القضايا منظومة مترابطة في علاقة ديناميكية متفاعلة تدعم وتوجه الوعي السياسي في المجتمع نحو مصالح مختلف طبقات وفئات المجتمع والمصلحة المشتركة العامة وليس الانتماءات الفرعية القائمة على الدين او العرق او العائلة. في هذا المقال نقتصر الحديث على مستوى المعيشة. يختص هذا الحديث عن الانسان المواطن كفرد والمجتمع كفئات مختلفة المستوى من الدخل والثروة والقدرة على تلبية احتياجات الحياة العادية ومعدل الرفاه الذي تعيشه ومستوى تأثرها بالسياسات التقشفية التي تنفذها الحكومة. السؤال الذي يمكن طرحه هو هل مستوى المعيشة اليوم هو افضل ما يمكن للجميع؟ وما ذا سيحدث لمستوى المعيشة بعد مرحلة النفط؟ وهل من الحكمة الانتظار الى ما بعد النفط لنكتشف ذلك؟ وأخيرا هل نحن متفقون على تعريف مستوى المعيشة وكيف نقيسه؟
يمكن اعتبار مستوى المعيشة على انه تعبير عن مدى قدرة الانسان في الحصول على دخل يؤمن ضروريات الحياة من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وصحة وقدر من الرفاهية يمكنه من الاستمتاع بوقت الفراغ والشعور بالسعادة. المقياس العام الذي نستخدمه اليوم هو متسوط دخل الفرد ولا يوجد لدينا معيار اخر. هذا المعيار مادي وعام يصلح للمقارنة بين الدول وكذلك للمقارنة بين فترة زمنية وأخرى في نفس الدولة، أي كلما زاد متوسط دخل الفرد كلما كان احتمال ارتفاع مستوى المعيشة.
لا يعبر هذا المعيار عن حقيقة توزيع الدخل الفعلي داخل الدولة وحجم الطبقة الفقيرة ومتوسط الدخل فيها وحجم الطبقة الغنية ومتوسط الدخل فيها. ولا يفيد في معرفة الفرق بين اعلى وادنى دخل، ولا يعبر عن معيار مستوى المعيشة المعنوي والاجتماعي مثل مدى شيوع الرفاه الاجتماعي وجودة الحياة. كما انه لا يشمل العمل التطوعي والتعاون في المجتمع. ومع ذلك فهو شائع الاستخدام لأنه معروف ومحدد، وثانيا لصعوبة الحصول على معايير كمية مناسبة لمفهوم جودة الحياة ومستوى الرفاهية والسعادة.
أيا كان التعريف فهناك جانبان لمستوى المعيشة، احدهما الجانب المادي الذي يهتم بتوفير متطلبات العيش الكريم والأخر معنوي يهتم بقدرة الانسان على المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتمتع بوقته وحرياته وشعوره باهميته وانسانيته وامنه واستقراره.
ان التمتع بمستوى معقول من الرفاه الاجتماعي يفرض على الدولة العمل على اعتماد سياسات لتحسين مستوى المعيشة وتعزيز القيم والمبادئ والمؤسسات لتنظيمها وادارتها وفرضها ومراقبتها، وتبني مؤشرات لقياسها وتقييم نتائجها. فمستوى المعيشة لا يتحقق بالنوايا الحسنة، وانما هو نتيجة تفاعل عناصر في منظومة متكاملة من الأهداف والسياسات والاليات والمؤسسات والثقافة والقيم، وان تكون خاضعة لتقييم ومراجعة مستمرة.
لذلك فان النجاح في تحسين مستوى المعيشة وتجويد نوعية الحياة وتحقيق الرفاه الاجتماعي هي مسئولية مشتركة بين الحكومة ومجلس النواب والمجتمع ومنظماته الاهلية والمهنية وجمعياته السياسية والدينية والثقافية.
يحتاج النجاح في تحسين مستوى المعيشة الى وضع اهداف وسياسات وتشريعات واعتماد آليات للمعالجة تحكمها قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون، تقوم على تطبيقها دولة قوية مساءلة ومقيدة بقانون في مجتمع حيوي منظم بمؤسساته وطاقات أبنائه قادر على التقييم والمساءلة والمحاسبة والتقويم، على ان يتم ذلك في حدود المحافظة على البيئة والحياة الطبيعية.
يمكن معالجة مستوى المعيشة على المدى القصير من خلال الميزانية وبرامج عمل الحكومة مثل تخفيف الرسوم والضرائب على الطبقة الضعيفة وصغار التجار وتحويلها الى ضرائب على الدخول العالية والشركات الكبرى (السياسة النقدية). وقد اتخذت الحكومة إجراءات تقشفية لسد عجز الموازنة، لكن لم يصاحبها برنامج مواز موجه للطبقات الضعيفة للتخفيف من الآثار المترتبة عن ارتفاع أسعار بعض السلع وحتى بعض الخدمات مثل رسوم المرور والكهرباء. هذه الإجراءات نالت من الطبقة الفقيرة وذوي الدخل المحدود والمتقاعدين وحتى شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة التي داهمتها هذه الإجراءات وادت الى تآكلها كما اثرت على القطاع التجاري وخصوصا صغار التجار والمستثمرين.
ضغط التقشف وعلاج العجز في الميزانية ينبغي ان يتحمله الاقدر وهم أصحاب الدخل العالي والشركات الكبرى. لن تمانع هذه الشركات من دفع ضريبة ربح اذا ما تم تطبيق ذلك على الجميع بعدالة ومساواة وشفافية وقدرة على المساءلة. هذه الإجراءات تعطي نتائج سريعة يشعر المواطن بتأثيرها. ولنجاح ذلك لابد من الوضع في الاعتبار تأثيرها على القدرة التنافسية للشركات في السوق الإقليمي والعالمي.
اما على المدى المتوسط والطويل فان تحقيق مستوى معيشة افضل يتطلب العمل على تنويع الاقتصاد وربطه بالميزانية العامة من خلال ضرائب أرباح ودخل ورفع الإنتاجية والابتكارية في الشركات والمؤسسات من خلال الاستثمار في التعليم والصناعات، وخصوصا في السلع والخدمات الموجهة للتصدير. فمن خلال رفع الإنتاجية والابتكارية والريادة والابداع تتاح فرصة تحسين الأجور والرواتب. بهذا فقط يتحقق ارتفاع مستوى الدخل وتتسع خياراتنا اكثر لتحسين مستوى المعيشة المادي والمعنوية والانساني.