نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ١٣ أكتوبر ٢٠٢١

مقال الاسبوع- يعاني الوطن العربي من ازمات بسبب سوء ادارة الدولة ويتجه نحو لحظة الحسم تفرضها التحولات التكنولوجية وتاثيرها على النفط. وازمات سياسية بسبب البطالة والضغط على الحريات وارتفاع الفقر. لم تفلح الخطط في الاصلاح الى الان وعدد السكان يتزايد فوق طاقة الاقتصاد. الحاجة الى عقد اجتماعي جديد تشاركي يعيد الحق لاصحابه تجنبا للانتحار الجماعي.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1270301

صدر في اغسطس الماضي تقريرا عن هيئة الاطلسي بعنوان “العرب  الى اين: نهاية دولة الرفاه والسير في رحلة المجهول”، يتحدث عن الوضع العربي والخيارات المتاحة للخروج من الازمات التي تواجهه على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. يقول التقرير بان الدول العربية، الغنية منها والفقيرة، الكبيرة والصغيرة يتجهون نحو لحظة الحسم. وان معظم هذه الدول تعاني من حوكمة عفا عليها الدهر وسوء ادارة اقتصادية، وتحولات تكنولوجية غيرت ديناميكة العرض والطلب على الوقود الاحفوري والمواد الخام مما يدفع المنطقة الى حافة تعثر الاسواق بسبب المضاربات غير المستدامة.

تتعرض عدد من الدول العربية الى هزات سياسية بسبب ارتفاع البطالة والضغوط الاقتصادية بالاضافة الى الابعاد السياسية. تقف عدد من الدول العربية على حافة الافلاس لاسباب منها الفساد وسوء الادارة وسوء تخصيص الموارد. تناقص الموارد في هذه الدول يفرض رفع الضرائب ويحد من قدرة الحكومات على توفير فرص عمل في القطاع العام وتوفير الدعم اللازم للطبقة الفقيرة ويهدد شبكة الضمان الاجتماعي الموجودة. هذه التراكمات تعلن عن نهاية دولة الرفاه واحداث خلل في العقد الاجتماعي الذي ساد في العقود الطويلة الماضية. كشفت جائحة الكورونا مدى الضعف في كثير من هذه الدول وزاد من حالة الشك في مستقبلها الاقتصادي.

وضعت عدد من الدول العربية خططا طويلة المدى تحسبا لهذه اللحظة. تفتقد هذه الخطط في كثير من الحالات الى بعض العناصر لضمان نجاحها. يحدد التقرير عدد من العناصر للاصلاح اهمها برامج تفصيلية لاصلاح القضاء ومنظومة التعليم وخطوات واضحة لرفع انتاجية العمالة المحلية، تعزيز الابتكار من خلال المنافسة واصلاح نظام استملاك الاراضي (اعادة توزيع الاراضي). كذلك تقلل هذه الخطط من حجم رؤوس الاموال المطلوبة وما ستواجهه هذه الاقتصادات من تحديات في السياسات المالية والنقدية. كما انها تضع اعتمادا كبيرا على مشاريع سياحية ومواصلات قد لا تكون مجدية في مرحلة ما بعد الجائحة. واخيرا فانها تفتقد الى اولويات للتنفيذ. حتى وان تم معالجة جوانب القصور هذه، فان النجاح سيعتمد على اصلاح جذري لثلاث قواعد رئيسية هي القضاء والتعليم والحوكمة. كما يعاني الوضع من تناقص اهمية الشرق الاوسط للسياسية الامريكية وصعود الصين ودول اسيوية وما يفرضه من تحالفات جديدة في المنطقة.

في هذا الاثناء سوف يصل عدد السكان في الدول العربية الى 800 مليون نسبة خلال الخمسين سنة القادمة مما يتطلب خلق فرص عمل تقدر ب 600 مليون فرصة في بيئة تنافسية عالمية شديدة وتحولات تكنولوجية تغير طبيعة الاعمال وارتفاع متطلبات المهارة مما يضاعف التحدي. يمكن ان تكون الزيادة السكانية ايجابية وترفع القدرة الانتاجية، لكنها ستكون عالة على الاقتصاد اذا لم يتغير النموذج الانتاجي. ستعتمد النتيجة الايجابية ايضا على قدرة الدول على اعتماد عقد اجتماعي جديدة مبنى على استراتيجية سياسية اجتماعية اقتصادية “تشاركية” لاحتواء هذه الزيادة السكانية وارتفاع مستوى التعليم. واذا لم تحتوي الاستراتيجيات هذه الزيادة السكانية وتوظفها في الانتاج فستكون النتائج عكسية. اي تباطؤ في الاصلاح قد يدفع الشباب الى اعمال قد تخلخل الاستقرار السياسي.

تواجه الدول العربية نفس اللحظة المفصلية التي واجهتها دول مثل اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وتمكنت من تجاوزها بسياسة الهدم الخلاق (وفق الكاتب السون في كتابه “صعود وهبوط الامم”) وتخلصوا من النموذج الاجتماعي الاقتصادي والسياسي القديم. بالرغم من الثقافة العربية المستسلمة للمصير، لا يمكن اعتبار عدم الاستقرار المستقبلي او الجمود مصيرا محتوما.

ويرى التقرير انه يمكن للدول الصغيرة ان تتبع النموذج السنغافوري الذي يعتمد على استثمارات رأسمالية وعمالة ماهرة، بينما تعتمد الدول الكبيرة النموذج الكوري ذا الكثافة العمالية الكبيرة. النموذجان يمثلان امكانية محتملة للتحول الاقتصادي في المنطقة اذا اعتمدت دول المنطقة معيار الكفاءة والتشاركية بدلا من نموذج الاستحواذ السائد.

اي النماذج تتبنى دول المنطقة فان الامور تشير الى ثلاث سيناريوهات للمستقبل. سيناريو شبيه بالنموذج الصيني الذي انتج صين جديدة موحدة بعد الثورات والاضطرابات. سيناريو اخر شبيه بالحالة الاوروبية حيث يتكون اتحاد عربي على غرار الاتحاد الاوروبي مدفوعا بموجة من المصلحة الذاتية المستنيرة. والنموذج الثالث هو الفوضى والصراع المستمر الذي يقضي على دول المنطقة في انتحار جماعي. في جميع الحالات فان الوضع القائم لا يمكن ان يستمر والتغيير اصبح قضية مصير.

يقول بانه من السذاجة تصور امكانية اتباع النموذج السنغافوري او الكوري. فغياب القضاء المستقل ونظام تعليم قوي وحوكمة فعالة نزيهة في معظم الدول العربية يمثلون عوائق امام خلق بيئة تمكن النمو. كذلك فان الوضع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والوقع السياسي المحلي والعالمي يختلف. من الاختلافات المهمة حجم الانفاق العسكري والامني في الدول العربية الذي يفوق 4% من الناتج المحلي، مقارنة بالمتوسط العالمي 2%. خفض الانفاق العسكري الى النصف سوف يخلق ما يزيد على مليون ونصف فرصة عمل سنويا. لذلك فان هذه النماذج تطلعية يمكن الاقتباس منها لكن لا يمكن محاكاتها. بالاضافة الى التقدم الاقتصادي فان هذه النماذج تُقدم قدوة في اصلاح التعليم والشفافية والحوكمة وحكم القانون.

مازال امام الدول العربية متسع من الوقت بفضل الاكتشافات الجديدة من النفط في شرق البحر الابيض، لكن هذا الوقت محدود وغير مضمون بسبب التحولات التكنولوجية، بالاضافة الى ان عصر محرك البنزين اوشك على الانتهاء مما سيضعف الطلب على النفط. اضف الى ذلك تاثير الحرب على التغير البيئي والاحتباس الحراي على الطلب النفط وما يصاحبه من تداعيات على المنطقة. واخيرا فان الامن الداخلي بدأ يتوتر بفعل الامكانيات التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي في بلورة غضب الشارع من السياسات الحكومية التقشفية والتضييق على الحريات في معظم الوطن العربي.

في الوقت الذي يتطلع شباب المنطقة الى حياة كريمة ومستقبل افضل، ليس امام الدول العربية سوى اتخاذ اجراءات لتفادي تداعيات تفرضها تطورات ليس لها قدرة مباشرة على تغييرها. وهنا يبقى امام القادة المستنيرين دمج الخيارات باصلاحات اقتصادية سريعة مع اصلاحات سياسية تشاركية وادارية وخلق بيئة تنافسية تضع لها موطىء قدم في التنافسية العالمية.

Drmekuwaiti@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *