نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. النظام الذي يتعلم من تجاربه وتجارب الاخرين

http://www.akhbar-alkhaleej.com/AAK/images/date_icon.jpg  تاريخ النشر :30  أبريل ٢٠١٧


بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

مشاكل اليوم تاتي من حلول الماضي. عبارة قالها بيتر سنج في كتابه (الحالة الخامسة- The Fifth Discipline). هذه العبارة تنطبق على وضع مؤسساتنا ودولنا العربية. كثيرا ما نحاول معالجة مشكلة اليوم وننتهي بخلق مشكلة اكبر غداً.  منذ نهاية عام 2010 انتابت الدول العربية موجهة من هيجان المجتمعات كانت كالطوفان اطاح ببعضها وغير انظمة بعضها الاخر وترك دول كثيرة في تخبط غير مدركة ماذا اصابها ولا الا اين تتجه. هذه الموجه ليست الاولى في التاريخ ولن تكون الاخيرة. فهي فعل تراكمات من الفساد والظلم وتزايد الفوارق الطبقية في الدخل والثراء غير المستحق. حدث ذلك في اوروبا عام 1848 حين خرجت الجماهير في معظم العواصم الغربية تطالب بالعدالة والمساواة والحقوق السياسية. لا يختلف الامس عن اليوم وعن الغذ بالنسبة للوطن العربي. 

مر الوطن العربي بموجة من الثورات في مرحلة الخمسينات لكنها لم تكن مثل هذه الثورات. كانت ثورات الخمسينات على المحتل الاجنبي اما اليوم فهي على “المختل” المحلي. مواطن الخلل هذه ليست غامضة ولكنها تعكس تضارب مصالح متصارعة تابى ان تقبل التصالح على حلول مستدامة تدفع بعجلة التقدم الديمقراطي خطوات نحو العدالة والمواطنة الكاملة. من طرف تسعى الانظمة الى الانتصار الكامل على شعوبها، وفي المقابل يسعى الطرف الاخر الى التغيير السريع في معادلة الامتيازات دون ادراك بقوة التاريخ ورسوخ التقاليد التي تحمي هذه الامتيازات.

ما يحدث في الوطن العربي من صراع هو شبيه لما يحدث في المنظومات بشكل عام والمنظومات الادارية بشكل خاص. فهناك مراحل في تاريخ المنظومة تحتاج الى ان تتكيف مع المتغيرات في بيئتها الخارجية والداخلية وتحديث علاقاتها بمكوناتها. والا ان يحدث هذا التكيف والتحديث تبقى المنظومة في حالة من عدم التوازن تكثر فيها النزاعات والصراعات الى ان يتم اصلاح الخلل او ان تنهار المنظومة لتحل محلها منظومة اخرى تبدأ مرحلة التحديث والتكيف مع متغيرات العصر.

في الاسبوع الماضي تحدثنا عن الشركات العائلية وكيف انها اضطرت الى ان تلجأ الى التكيف والتحديث بتغيير تنظيمها وتحويل الشركة الى مؤسسة خاضعة لمفاهيم الحوكمة وفصل السيادة على المال العام في المؤسسة وبين الادارة من خلال تعيين ادارة متخصصة (رئيس تنفيذي) يكون مسئولا عن نجاح عمليات الشركة فيما تنحصر مسئولية الملاك للشركة في الرقابة والمساهمة في التطوير.

برز في علم الادارة في التسعينات مفهوم المؤسسة المتعلمة (Learning Organization) وهي المؤسسة التي تستوعب الحاجة للتغيير والتكيف مع المتغيرات وتستجيب له لكي تبقى وتستمر وتزدهر. يقوم هذا المفهوم على اعتبار المؤسسة كمنظومة لها مدخلات وعمليات تحوِّل هذه المدخلات الى مخرجات تختلف باختلاف طبيعة المنظومة والغاية منها. تخضع عمليات هذه المنظومة الى قواعد وقوانين تكون بمثابة الدستور والتقاليد والعادات التي تنظم علاقات مكونات المنظومة وعناصرها واجهزتها بعضها ببعض.

المؤسسة المتعلمة لها خمس خصائص رئيسية اكتسبتها على مر التاريخ اولها “التفكير المنظومي” (systems thinking) الناتج من التفكير الشمولي في تقييم اداء وعمل المؤسسة وفق معلومات وبيانات شاملة وكاملة عن جميع عملياتها دون اخفاء بعض المعلومات او نشر ما يبين الجوانب الايجابية فقط، واعتبار النتائج غير الملائمة فرصة للاصلاح وليس تشويها لسمعة الشركة.

الخاصية الثانية هي الاجتهاد الشخصي في التعلم. المؤسسة التي يتمكن العاملين فيها من التعلم السريع والتكيف المتقن يمنحها ميزة تنافسية. التعلم على مستوى المؤسسة هو مجموع مايتعلمه الافراد في المؤسسة بالاضافة الى مايتعلمونه نتيجة تفاعلهم معا. لذلك من الضروري ان تسود في المؤسسة بيئة صالحة للتعلم والافصاح عن المعلومات وكشف النتائج لكي يستفيد منها الجميع في الاصلاح والمنافسة.

الخاصية الثالثة: هي الفرضيات والمسلمات التي تسود في المؤسسة والتي تعبر عن واقعها. تتعرض هذه الفرضيات في المؤسسة المتعلمة الى التمحيص والفحص الدقيق من فترة الى اخرى ولا تؤخذ على انها حقائق ثابتة دون تجربة وفحص مستمر. هناك نظريات يحملها الفرد عن السلوك الذي ينبغي ان يسلكه والسلوك السائد في المجتمع. فمثلا اذا كان السلوك المطلوب هو النزاهة لكن المواطن او الفرد يرى ان السلوك السائد هو الفساد. هذا يعني وجوب مواجهة هذا التناقض بين السلوك السائد والسلوك المطلوب للنجاح. قدرة المؤسسة على كشف هذا التناقض وسرعة التعامل معه يميزها عن غيرها. لا يكفي ان ننادي بالمبادئ والقيم والعبارات الصحيحة مثل احترام حقوق الانسان وحكم القانون والعدالة بينما السلوك السائد يتناقض مع هذه المبادئ. في مثل هذه البيئة لا يمكن للمؤسسة ان تتقدم وان تعالج مشاكل اليوم دون خلق مشاكل مستقبلية.

الخاصية الرابعة: وجود الرؤية المشتركة التي تحفز الجميع نحو العمل وتحقيق النتائج كما انها تخلق هوية واحدة جامعة في المؤسسة. يشترط في هذه الرؤية مشاركة الجميع في وضعها لكي تعبر عن مصالحهم ومتطلباتهم المختلفة. اي رؤية توضع من الاعلى دون اخذ ذلك في الاعتبار سوف تفشل في خلق الهوية الواحدة والمعبرة عن الجميع، لانها رؤية تمثل مصالح طبقة من الناس دون الباقي.

الخاصية الخامسة: التعلُّم الجماعي يمنح سرعة نمو (الموظفين) المجتمع وتنمية قدرته على حل المشاكل من خلال توفر المعلومات والمعرفة والخبرة. فعالية هذه الخاصية تعتمد على شيوع الحوار في المجتمع والنقاش وتناول القضايا الخلافية والحلول المقترحة بتفحص وتمحيص وتحدي المسلمات والفرضيات. هذه الخاصية تحتاج الى وجود آليات وهياكل للتعلم الجماعي ولتوفير المعرفة والمعلومة للمجتمع ولتنفيذ الحلول التي تبرز من هذا التفاعل المجتمعي الاهلي والرسمي ولتقييم النتائج والعمل على تصحيح الاخطاء.

الظروف التي تتعرض لها الدول من الحاجة الى التغيير والتكيف لا تختلف في جوهرها عن حاجة المؤسسات التجارية والصناعية والخدمية للتغيير والتكيف للبقاء في المنافسة العالمية وحتى المحلية. المؤسسة سواء كانت دولة ام مؤسسة في وقتنا الحالي بصفة خاصة اصبحت معرضة للمنافسة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ويتطلب ذلك منها التغيير للحفاظ على تماسكها الداخلي واتجاهها التنموي ومكانتها بين الدول. 

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *