نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

4.    الوطن العربي.. أزماته وحاجته إلى التغيير

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ٢٩ يناير ٢٠٢٠ – 02:00

مقال الاسبوع – يعاني الوطن العربي من الصراعات والاقتتال على السلطة و على مصالح واطماع ورغبة في الهيمنة الاستئثار بموارده. مرت الحضارات الاخرى بهذه الصراعات وتغلبت عليها بمنظومة ديمقراطية تمنح المواطن صوتا مؤثرا وحرا في تنظم الحقوق الاقتصادية والسياسية وفق قاعدة المساواة وتكافؤ الفرص. خلاصة القول إن العالم سبقنا ولا نملك ان نعيد اختراع العجلة بل ان نسير في اتجاه العدالة والمساواة كما فعل العالم.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1198354

تمر الأمة العربية والإسلامية بمرحلة حساسة في تاريخها المعاصر. مرت بمخاض كبير في 2011 اختلفتْ حتى على تسميته وتوصيفه. استمر هذا الوضع المأزوم في بعض البلدان إلى الآن، وتبعتها بلدان أخرى مثل الجزائر والسودان والعراق ولبنان وما زالت موجات التظاهر مستمرة تحصد أرواحا وتهدم آمالا وطموحات شباب الأمة وتفتت المجتمعات. قد تكون هذه المرحلة هي مرحلة تحول ومخاض من نظام سياسي يقوم على حكم الفرد إلى تطبيق مفهوم الشعب مصدر السلطات تطبيقا يحقق المشاركة الفعلية ومساواة في التأثير السياسي والاقتصادي. حدث هذا المخاض في مناطق كثيرة من العالم ولم تسلم منه الحضارة الغربية المهيمنة الآن. 

بالنسبة إلى الأمة العربية لم تكن تلك الفترة من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى 2011 فترة وئام وسلام بل تخللتها صراعات بين دول الوطن العربي من جهة ودول استعمارية من جهة أخرى، وبعدها صراعات بين الدول العربية نفسها، وكذلك صراعات ونزاعات ضمن الدولة العربية الواحدة بين مختلف القوى والفئات المكونة للمجتمعات العربية. النزاع في الدول العربية كان بين قيادات سياسية تسعى إما إلى الهيمنة على الوطن العربي أو نشر رؤية آيديولوجية معينة. في كثير من الحالات لم يكن الخلاف على مبدأ الشعب مصدر السلطات، فقد أقرت به جميع الدساتير العربية ولكن الخلاف والاختلاف في كيفية تطبيقه عمليا وكيف يتم تنظيم مؤسسات الدولة وسلطة الشعب وترجمته إلى مؤسسات فاعلة وسياسات وقرارات. 

على هذه الخلفية وفي نقاش مع أحد الأصدقاء يقول: «لماذا تتمركز الصراعات والخلافات ونزعات التدمير في وطننا العربي؟» قد لا يكون هناك جواب شامل واحد للحالات العربية، فهناك اختلافات كثيرة بين الدول وخصوصيات تاريخية تؤثر في سير عملية التغيير لكل دولة. هذا يقود إلى ما هي العوامل التي تشكل الوضع السياسي في المجتمع وتؤثر في صراعاته وكيف تَعامَل معها الغرب مثلا؟ 

مر الغرب ومناطق كثيرة من العالم بفترة من الحروب والنزاعات والصراعات الداخلية والخارجية. هدأت هذه الصراعات في الغرب بعد أن حسمتْ الأمر لصالح النظام الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية. تحولت أوروبا بعدها إلى ديمقراطيات تتنافس فئات وطبقات المجتمع داخل الدولة على المصالح والنفوذ والصوت السياسي من خلال المداولات والحوارات ومنظمات المجتمع المدني ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية. لا يضمن هذا الصراع السلمي العدالة بين أفراد المجتمع ولكنه وضع أسس تمنح مختلف المصالح فرصة التعبير عن رأيها وحماية مصالحها وأن تجند طاقاتها للفوز في الانتخابات القادمة ليكون لها تمثيل أكبر تستطيع من خلاله تحقيق قدر أكبر من مصالحها. 

أما الصراع فيما بين الدول الأوروبية فتحول إلى صراع علمي معرفي إنتاجي وتنافس في الأسواق وفي المحافل الدولية بعد أن كان صراعا عسكريا لزيادة ثروتها أو تعظيم نفوذها. فقد أصبح مصدر الثروات والنفوذ هو الإنتاج والابتكار وليس اجتياح أراضي الجيران ونهب خيراتها. أصبح الصراع داخليا وخارجيا تحكمه مفاهيم تقوم على التفاوض والمعاهدات والاتفاقيات وقواعد التجارة الحرة فيما بينها. هذا الوئام فيما بين الدول الغربية لا يعني أنها تمارس نفس المبادئ في تعاملها مع الشعوب والدول الأخرى الأضعف، بل هناك الاستغلال والحروب ونهب الخيرات وممارسة الظلم والعدوان. لكن كما يقال الدول الديمقراطية لا تتقاتل فيما بينها لأنها اتفقت على طريقة سلمية لحسم النزاعات. أما النزاعات ضمن حدود الدولة بين مختلف طبقات المجتمع ومكوناته وفئاته فتحسمه صناديق الاقتراع.

انتشرت هذه المفاهيم في كثير من دول العالم وهدأت بسببها الصراعات المسلحة بين الدول وضمن الدول في معظم بقاع العالم. للأسف لم تنتشر ولم تتجذر هذه المفاهيم في وطننا العربي واستمرت الصراعات بين النخب السياسية تقود إلى عنف وأحيانا إلى اجتياحات وحروب فيما بينها، وحتى ضمن الدولة الواحدة. واستمرت هذه النزاعات تحدد مسار تاريخنا وتطورنا السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي والمعرفي، وهو مستمر تاريخيا  منذ عهد الدولة الأموية تقريبا إلى يومنا هذا.

التطور الثاني الذي حول الغرب إلى ما هو عليه الآن هو التحولات التي طرأت في الجانب الديني. سيطرت الكنيسة الكاثوليكية على القارة الأوروبية بشكل خاص وبعض الدول التابعة لها. هذه السيطرة لم تكن كاملة وشاملة بل تصدى لها الملوك ونتج عنها صراعات كبيرة بين باباوات الكاثوليكية والملوك، تناوبوا على السيطرة والهيمنة. أنتج هذا المخاض مؤسسات تختلف نفوذها وسلطتها من دولة إلى أخرى ولكنها في مجملها وضعت أسسا لتنظيم الحقوق والواجبات وتحدد السلطات والمسؤوليات ووضعت قواعد تنظيم الحياة السياسية وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية وبناء الدولة الحديثة على أسس حكم القانون بدرجات متفاوتة. 

القضية الثالثة التي أثرت في التاريخ الأوروبي هي قضية حق تفسير الإنجيل. حتى ظهور الحركة البروتستانتية كانت الكنيسة تحتكر حق التفسير وتسيطر على العقل فلا يحق لأي إنسان أن يفسر كما يرى. ثورة لوثر كنج في القرن الخامس عشر أنهت هذا الاحتكار وجعلت الإنجيل متاحا للناس يفهمونه كما تمليه عليهم قدرتهم المعرفية وخلفيتهم الثقافية وميولهم العقائدية. فتحرر العقل الغربي من السلطة الثانية التي شكلته على مدى قرون وحاصرت حقه في التعبير وحقه في الفهم والتفكير الحر الناقد المستقصي.

القضية الرابعة هي الحركة الفلسفية والعلمية التي بدأت في الغرب من ترجمات ابن رشد وغيره. تطورت هذه الثورة العلمية والفلسفية وانتهت بعصر التنوير والثورة الصناعية في بريطانيا ومنحته المنهج العلمي التجريبي بالإضافة إلى المنهج الفلسفي في جدلية دفعت المجتمع إلى الأمام. أدت هذه الثورة إلى ارتقاء مجتمعي وسع من حجم الطبقة الوسطى ونظمتها في مؤسسات مدنية ونقابات عمالية قوية انتهت بتشكيل أحزاب قادت الحكومات. حدثت حركات مماثلة في أوروبا على مراحل بدءا من حرب تحرير أمريكا إلى الثورة الفرنسية إلى الثورة الصناعية الثانية في ألمانيا وأمريكا. 

كرست هذه المحطات التاريخية والثقافية وغيرها مفهوم الحوار والنقاش والتداول وحولت المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات أكثر عقلانية، تقبل الآخر المختلف وتحترم كرامته. لم يعد الهدف من الحوار والنقاش إقناع الآخر وإنما عرض وجهة نظر المتحدث. أقتنعت الشعوب بأن فهم النص الإلهي والإنساني هو عمل بشري ليس مقدسا بل قابل للمناقشة والأخذ والرد وأعطت الفرد هذا الحق. 

هذا لا يعني أننا في الوطن العربي علينا أن نتتبع هذه الخطوات ونقلدها، فلكل أمةٍ تاريخها وخصائصها الثقافية التي تفرض عليها سلوك طريق الأمن والاستقرار والعدالة والمساواة بنفسها ومن وحي تجاربها وثقافتها ودينها. 

خلاصة القول إن تطور الدول يكون على مراحل تتراكم خبراتهم وتتعاظم مكتسباتهم. لكن هذا لا يعني أن تستمر التحولات قرونا كما كانت في الماضي، بل علينا أن نتعلم من تجارب غيرنا وأن نبدأ من حيث انتهى الآخرون ولا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة. كما علينا أن ندرك أن الزمن لا ينتظرنا، وسوف نضمحل إن لم نسرع. هناك تراث إنساني ضخم نستطيع أن نوظفه في التغلب على الخلافات ونقتنع بأن الإنسانية تسير في اتجاه العدالة والمساواة والشورى والإيمان بأن الله خلقنا جميعا لنكون عبادا له وليس عبيدا لأحد، ولا فرق بيننا إلا بالتقوى والعمل الصالح.

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *