اليوم العالمي لحرية التعبير والفكر في الوطن العربي
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ٠٨ مايو ٢٠١٩ – 01:15
مقال الاسبوع – حرية الصحافة في الوطن العربية حبيسة في اروقة السلطات، وهي مطية يستخدمها كل من يريد ان يطوع حرية التعبير لصالحه. السلطات الدينية والسلطات السياسية وجعلت الصحافة غير فاعلة في الاصلاح. وصنفتها الى مسئولة وغير مسئولة. لا توجد حرية تعبير مسئولة وغير مسئولة. حرية التعبير مطلقة وهناك قوانين تجرم كل من يتعدى على حقوق الاخرين بالشتم او القذف او الاتهام او الازدراء. لا يجب تقييد حرية من ينتقد تصرفات وسلوك المسئولين ضمن حدود مسئوليتهم، ولا يجب وقف التحري والصحافة الاستقصائية خوفا من حرية التعبير. هذا هو طريق الاصلاح، لن يرضي الجميع ولكنه الطريق الوحيد.
عندما نتحدث عن الوطن العربي ينتابنا شعور بأنه عصي على التقدم واللحاق بركب الحضارة العالمية. بالرغم مما حبانا الله به من ثروات بشرية وطبيعية، نجد تخلفا في الإنتاج المعرفي والعلمي وتخلفا في الإنتاج الصناعي والتكنولوجي وتخلفا في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتخلفا في حقوق الإنسان وتخلفا في رعاية الحياة البيئية والفطرية. تصنفنا المنظمات الدولية في ذيل القائمة في كل من هذه الجوانب المؤثرة في حياة الشعوب وتقدمهم وازدهارهم. ليس هذا فحسب بل ان الوطن العربي عاش ويعيش صراعات سياسية ودينية وأيديولوجية قد عالجها الفكر الإنساني، لكنها ما زالت تعصف بنا وأدت إلى خروج عدد من دولنا العربية من الحضارة الإنسانية وأصبحت دولا فاشلة تحتاج إلى عقود لتستعيد حالتها قبل الانهيار.
هناك عدة رؤى ونظريات تحاول تفسير ما يحدث. هناك نظرية المؤامرة التي تضع اللوم على الغرب في كل ما يحل بنا من مصائب، وهناك نظرية التخلف في نظم التعليم، وهناك نظرية التخلف في التطور السياسي والانتقال نحو الدولة الديمقراطية الحديثة، وهناك نظرية الابتعاد عن الدين. وكل من هذه النظريات تجد لها من يناصرها وفقا لمصالح وتصلب مواقف معظمها لا يستقيم أمام التمحيص والفحص، وكل منها يطرح مقترحات وحلولا قد تضيف شيئا إلى النظرية الشاملة التي تشخص الوضع بتجرد ومن دون سابق إصرار على رؤية واحدة، وعلى مجموعة من المؤشرات والمحددات التي تشير إلى مدى قدرة هذه الدول على الخروج من القوقعة التي وضعنا أنفسنا فيها إلى رحابة الدول الديمقراطية الحديثة المنتجة والمساهمة في الحضارة الإنسانية.
تتفاوت الدول العربية (وخصوصا الخليجية) في تطورها وتنميتها وتمسكها بمقومات الحضارة العالمية. وأحد مؤشرات هذا التطور والتحضر هو مستوى حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية الفكر. الرسالة المحمدية قامت على حرية التعبير، والتطور العالمي لم يتقدم إلا بعد أن صمد كثير من العلماء والمفكرين في وجه مروجي التقيد بالماضي وسلطة التراث والتقاليد. فقد كانت الصرخة الأولى في وجه الكنيسة وفي وجه الثقافة السائدة وسلطة التقاليد قالها كوبرنيكوس إن الأرض دائرية وتدور حول نفسها وحول الشمس، وكان ذلك يخالف اعتقاد الكنيسة المستمد من نظرة أرسطية إلى الكون. وكذلك جاليليو بعده الذي اثبت دوران الأرض حول الشمس وتعرض لمحاكمة الكنيسة له. لم ينطلق العلم وتراكم المعرفة الإنسانية الا بعد ان تحرر من قيود الكنيسة، وأسهم في هذا التحرر العلمي صراع السلطات السياسية مع الكنيسة وضعف الكنيسة تدريجيا في الحياة العملية. ضعفت كذلك السلطات السياسية تدريجيا أمام العلم والفلسفة واقتنعت بدور حرية الفكر والبحث العلمي والتعبير وحرية المواقف السياسية والدينية والاجتماعية في حضارة الإنسان وتقدم الدول. وتغير مفهوم الحكومات حول كيفية إدارة المجتمعات وفق قيم العدالة والحرية والمساواة التي انبثقت من الثورة التنويرية التي بدأت مع ديكارت في جعل الشك هو بداية اليقين.
اما على المستوى الإسلامي فإن حرية التعبير هي القيمة الأولى التي أتى بها رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم حين قال في وجه قريش الذين منعوه من نشر رسالته «خلوا بيني وبين الناس». لم يطلب سوى عدم منعه من نشر الدين بالحسنى والكلمة الطيبة ومخاطبتهم كما أمره الله (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، 125). إذن، نحن أمام مفهوم علمي أن التقدم والازدهار لا يبنى إلا على حرية الفكر وحرية التعبير وحرية المجادلة والمطالبة بالإقناع بالأدلة، وأمام مفهوم ديني يتفق معه في أن حرية التعبير والفكر والمخاطبة بالموعظة والمجادلة بالحسنى هي أساس التقدم وجوهر الحضارة.
هذه قواعد تؤطر لأهمية حرية الفكر والتعبير لنجاح الأمة وتقدمها وازدهارها. وتقنين حرية التعبير ينبغي ألا يخرج عن الإطار الذي وضعه الدين الإسلامي وهو الحق والعدل والمساواة والموعظة الحسنة وينبغي ألا يخرج عما يتطلبه العلم والبحث العلمي والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من الدليل العقلي الذي دعا إليه الإسلام الحنيف في جميع الأمور باستثناء الحقيقة الإيمانية بوجود الله واليوم الآخر.
الأمر الذي نستشفه من كلمة جلالة الملك وسمو رئيس الوزراء بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، ومن المقابلة المنشورة لسعادة وزير الإعلام أن الأمة العربية بحاجة في هذه المرحلة إلى إعلام قادر على تقييم ونقد وتصحيح المسار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني في الوطن العربي لكي نتخطى آثار الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية، وإعلام مستعد لإرساء القيم الوطنية المشتركة والتوعية والتنوير الثقافي والمعرفي وإعمال العقل في معالجة قضايانا. وأن يتم ذلك في ظل أسس العدالة والمساواة واحترام الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية لكي نتعلم جميعا من تجاربنا الفردية والجمعية وننقذ أوطاننا العربية من الدمار أو التخلف. وفي واقعنا المحلي فإننا نأمل من أن مشروع قانون الإعلام الجديد من شأنه تعزيز الحريات وضمان استقلالية الصحافة ومعاقبة من يعتدي عليها. إن تقوية الجبهة الوطنية لن يكون إلا من خلال تأصيل قيم العدالة والمساواة والشراكة المجتمعية لدعم وترسيخ روح المواطنة الصالحة.
غير أننا نعتقد في ضوء تطور الإعلام الاجتماعي وبلوغه مراحل متقدمة أن دور الإعلام الرسمي يحتاج إلى إعادة تحديد. فبدلا من إعلام يعتمد على ردات الفعل، فإننا اليوم بحاجة إلى إعلام مبادر وإعلام استقصائي قادر على التحري لمحاربة الفساد وتعزيز سيادة القانون وخلق بيئة عمل جاذبة للاستثمارات المحلية والأجنبية، وإعلام فاعل ومبادر في محاربة التطرف والإرهاب. والاهم نحتاج إلى إعلام قادر على فتح الحوارات والنقاشات والمراجعات في شتى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لاستعادة حيوية المجتمعات.
فمثلا في الأسبوع الماضي كتبنا حول ندوة فضيلة الشيخ عبداللطيف المحمود التي أثار فيها الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني وأهمية تنقيح التراث وتخليصه من كل ما يُستخدم لدعم وحماية الإرهاب والتطرف. يمكن للإعلام أن يلعب دورا فاعلا ورائدا في تعزيز كل ما يؤدي إلى فهم جديد يقوم على تأصيل التراث وفق فهم أعمق للقرآن الكريم والسنة الصحيحة السمحاء. فهذا مجال مهم في استراتيجية مواجهة الكراهية والإرهاب التي ذكرها سعادة وزير الإعلام في المقابلة، إنها فرصة للإعلام المرئي في نشر روح الحوار في المجتمع من خلال مقابلات ومناظرات علمية دينية، ومناظرات اقتصادية وسياسية. هناك العديد من المثقفين المتعمقين في التراث الديني والتاريخي والإنساني الذين يمكن أن يضيفوا إلى تخفيف حدة التطرف والتزمت ودفع عجلة التقدم.