نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

جريمة في أمريكا تثير الضمير العالمي

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ١٠ يونيو ٢٠٢٠ – 02:00

اهتز الضمير «الإنساني» في أمريكا والعالم لمقتل مواطن أمريكي (جورج فلويد 46 سنة) على يد شرطي إثر محاولة اعتقاله بسبب (كما يقال) (محاولة تمرير ورقة مزورة فئة عشرين دولار في متجر أثناء دفعه فاتورة مشتريات). خرجت على أثرها مظاهرات بأعداد كبيرة في ولايات أمريكية عدة ومن مختلف الخلفيات والجنسيات والأعراق ومشاهير أمريكا، بيضا وسودا، لم تشهدها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية. كذلك شهدت مدن أوروبية مظاهرات متعاطفة مع الحدث الذي اظهر الضحية تحت ركبة الشرطي وهي مستسلمة للاعتقال من دون مقاومة ومع ذلك لم يحرك ذلك رحمة لا من الشرطي الفاعل المباشر ولا من أفراد الشرطة المرافقين له. 

هذه المظاهرات العفوية التي خرجت للتعبير عن غضبها هي شعوب حية لها تقدير للإنسان كإنسان. هذا لا يعني تبرير العنف والتخريب الذي صاحب الاحتجاجات، فقد ارتكب بعض المتظاهرين جرائم يستحقون الاعتقال والمحاسبة عليها. هذه الجرائم تسيء إلى المظاهرات وتحولها إلى أعمال تخريب خارجة عن القانون. لكن يبقى قتل جورج فلويد جريمة شنعاء ارتكبت أمام نظر العالم. ويجب اعتبار أن ما حدث ليس أمرا عاديا كما قال الرئيس السابق أوباما. 

أيا كانت ملابسات جريمة القتل، فإن المؤكد هو أن الصدمة الأخلاقية كانت كبيرة، وصارخة في وجه كل من يرى أن الإنسان كإنسان له حرمته وحقه في الحياة وحقه في المعاملة القانونية مهما كانت الظروف ومهما كانت الأسباب، وأن القتل، في أي مرحلة من مراحل التعامل مع المحتجز، هي في حد ذاتها جريمة مهما كانت جنسية القاتل والمقتول وانتمائهما. المشكلة التي نعاني منها نحن العرب أن مثل هذا التعامل أو المشاهد حين تقع في أوطاننا لا تحرك المجتمع أخلاقيا، وإن كانت تصدمنا كأفراد ونتعاطف مثل ما يتعاطف الآخرون بل نغضب كما يغضب أصحاب الضمائر الحية لكنها لا تحرك فينا الحاجة إلى الاحتجاج والتعبير السلمي عنه بحيث يقدم دليلا على رفضه واضطرار القائم به إلى مراجعة حساباته وتعديل سلوكه. 

نعرف ونرى تسجيلات مماثلة لأطفال وشباب ونساء تهان كرامتهم وتزهق أرواحهم وتنتهك حقوقهم وتهدم ممتلكاتهم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة على أيدي الشرطة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي وحتى المستعمرين في المستوطنات، وقد يحزن بعضنا لهذه المشاهد ويتعاطف معها، ولكن نقف عند هذا الحد من دون أن يحرك ذلك فينا الرغبة العارمة للاحتجاج. قامت منظمة إرهابية بحرق الطيار الأردني ولم تتحرك الشعوب العربية في احتجاج ليس على الجناة، ولكن على الفكر والفتاوى خلف هذا الفكر. هل مات فينا الضمير الإنساني المتعاطف مع الإنسان كانسان، الإنسان المستضعف أيا كان، والدفاع عن القانون واحترامه وتطبيقه في جميع الظروف، أم أن هناك خللا في قيمنا الأخلاقية، فأصبحت انتقائية تحركها بعض الجرائم لبعض الأشخاص أو لبعض الفئات ويغط ضميرنا في سبات عميق إذا انتهكت حقوق آخرين؟

ما حدث في أمريكا ليس فقط هبة عفوية لحادثة واحدة ولكنها نتيجة تراكمات لسياسات شجعت العنف بحسب رأي الكثيرين، وكذلك نتيجة سلوك متأصل في الشرطة الأمريكية نتيجة ثقافة تعتبر نفسها مهددة من الأقليات المختلفة من الشعب وإذا لم تستخدم العنف ضدهم فسوف يفقدون السيطرة عليها. تأصلت ثقافة وصم جنسيات معينة مثل المكسيكي (مجرم)، والأسود (غير مؤهل)، والعربي (إرهابي). هذه الثقافة خلقت هذه الاستهانة بحياة أصحاب البشرة المختلفة واللغة المغايرة والثقافة الغريبة ووصمتهم بالعنف كفئة بأكملها. ولو كان المتهم ذا بشرة بيضاء لاختلف التعامل مع القضية. وهذا النوع من الوصم خطير، وللأسف يمارس في بعض دولنا، وينم عن عدم احترام كرامة الإنسان كانسان. 

النظام الأمريكي ليس قدوة ولا مثالا يحتذى به، فيده ملطخة بدماء أبرياء وجرائم ضد دول وأفراد ودعمه لاستمرار التعنت الصهيوني، لكن في هذه الأزمة برزت كذلك بعض محاسن هذا النظام. فمثلا قائد الجيش يرفض الانصياع لرئيس أمريكا ترامب في إرسال الجيش لقمع المتظاهرين. ورئيس الشرطة يرفض طلب الرئيس ترامب باستخدام الشدة والعنف ضد المتظاهرين ويقول «نريد أن نكسب العقول والقلوب» و«قل خيرا أو اصمت». هذا موقف إنساني أخلاقي من موقع القادر على استخدام العنف، وقد يكون الموقف لأسباب مصلحية لا نعرفها، لكن النتيجة هي انتصار لكرامة الإنسان، واعتقال فقط من يعمد إلى التخريب والتكسير والسرقة.

ما حدث في أمريكا أثار تساؤلات كثيرة حول الإنسان والمجتمع الأمريكي والنظام السياسي والضمير العالمي. اتضح أن الإنسان الأمريكي أكثر شجاعة وأكثر تأثرا وأكثر استعدادا للتعبير عن غضبه على الظلم وانتهاك حقوق الإنسان بغض النظر عن مواقف حكومته. ونتذكر كيف خرجت مظاهرات في مدن أوروبية احتجاجا على قرار الحرب ضد العراق بالرغم من موقف حكوماتهم، خرجت المظاهرات في فرنسا وألمانيا اللتين كانتا رسميا ضد قرار الحرب، وفي بريطانيا وأمريكا اللتين كانتا رسميا مع قرار الحرب. بغض النظر عن سريان قرار الحرب لكن الشعب عبر عن رفضه ومازال يعبر وينتقد في كثير من المواقع العديد من سياسات دولهم. 

فكيف تَخَلَّف الضمير العربي وأصبح لا ينتصر لقضاياه المصيرية ولا يعبر عن رفضه لقرارات استعبدت الشعوب عقودا من الزمن حتى جاء الربيع العربي كاستيقاظة متأخرة أكلت الأخضر واليابس، ولم تثمر لأنها حوربت ولأنها انتهجت العنف وحملت السلاح. ما دعا إلى الدمار في الربيع العربي هو السكوت عن سلوك وتعديات على الحريات والحقوق وعدم رفضها في حينها والخروج والاحتجاج السلمي في الوقت المناسب على إجراءات وقرارات وقوانين وانتهاكات لحقوق الإنسان وامتهان كرامته قبل أن تتفاقم. هذا السكوت والاستكانة صنع ديكتاتوريات استحلت الأوطان واستباحت الإنسان وهدمت ما بنته الأمة من مكتسبات يمكن ان تتراكم في مسيرة سلمية نحو مستقبل أفضل. ما حدث في أمريكا يستوجب طرح السؤال: لماذا خرجت الناس بهذا الحجم والزخم والعنف؟ ويجب كذلك أن يُبحث في أسباب هذا السلوك، سواء كان من الشرطة أم من المتظاهرين. ونحن في الوطن العربي علينا كذلك أن نطرح الأسئلة الصعبة: لماذا يحدث ما يحدث وما هي الأسباب العميقة خلف الوضع العربي الراهن؟

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *