- خفض الإيرادات فرصة لإنهاء حقبة النفط
تاريخ النشر :٢ سبتمبر ٢٠١٥
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
مقال الأسبوع- حقبة النفط بمفهومها القديم تكاد تنتهي عمليا والخول في تنمية حقيقية يحتاج تنازلات عن الكثير من الامتيازات الى قسمت المجتمع وخلقت الصراعات.
في الأسبوع الماضي تحدثنا عن رفع الدعم واعتبرناه فرصة للتخلص من نقمة النفط والعودة الى الاقتصاد الإنتاجي (رب ضارة نافعة). وقلنا ان رفع الدعم هو خطوة في طريق فرض ضرائب وارهاصات أولية لانتهاء حقبة الاعتماد على النفط وترفه. لم نستخدم النفط للتنمية وإنما لتمويل نمط حياة بذخية عند بعض فئات المجتمع، وتحسين مستويات المعيشة بشكل عام من دون الدخول في تجربة تنموية لتحقيق ذلك. معركة الأسعار المشتعلة قد تستمر الى نهاية 2016 وفق بعض التحليلات. لذلك فإن خفض الإيرادات النفطية فرصة سانحة لانطلاقة خليجية جديدة بعقلية مختلفة وتوجه يتناسب ومعايير التنمية الحقيقية في الدولة الحديثة. فرصة تبدأ بإعادة النظر في العلاقات وفي السلوك وفي القيم وفي المفاهيم، وما يترتب على ذلك من إعادة تعريف المصلحة العامة والسلم الأهلي والأمن الوطني.
سوف تحتاج المجتمعات الخليجية الى وقت طويل للتخلص من تأثير مرحلة النفط والتشويه الذي أحدثته في قيم المجتمع وتقديره للعمل والانتاج. فقد عاشت الدولة والمجتمع في علاقة معكوسة. فبدلا من ان تكون الدولة تعتمد على المجتمع في تمويلها وفي وضع قواعد العمل بها وفي تحديد القيم التي تسود، أصبحت الدولة الخليجية مستقلة عن المجتمع وتموله وتحدد له قيمه وقناعاته ومفاهيمه وشروط تعامله معها ومع الاخرين. هيمنت بذلك الدولة على المجتمع مما خلق حالة مناقضة للدولة المدنية الحديثة التي تعتمد على مواطنيها وتتعامل معهم على انهم الملاك الحقيقيون لمؤسساتها. خلف ذلك مجتمع يعيش على ما تقدمه الدولة من امتيازات ووظائف لا تخضع لمعايير العدالة والمساواة. خضعت جميع قوى المجتمع الفاعلة من تجار ومثقفين ونخب ورجال دين للدولة، تقتات على ما تقدمه من دعم او فرص عمل او وكالات تجارية او هبات وعطايا. كما أدى الاعتماد على النفط وأسلوب الدولة في توزيع الثروة الى فصل قيم العمل والإنتاج عن الدخل، أضف الى ذلك ما فعله نظام المحسوبية وتقديم الولاء على حساب الكفاءة من تغليب العلاقات على الجدارة والجد والاجتهاد فتراجعت قيمة التعليم والتحصيل العلمي والبحث الجاد المنتج.
لذلك فإن الدخول في مسار تنموي الآن يتطلب جهدا جماعيا على مستوى الدولة ونقاشا مجتمعيا حرا وشفافا. لكن يمكن ان نطرح بعض التصورات حول المسارات الممكنة لهذا التحول مبنية على نموذج «غورنار ميردال» في دراسته لشرق آسيا (الدرامة الآسيوية – دراسة في فقر الأمم). هذا النموذج يطرح تحولا من عدة مسارات تكون بمثابة الصحوة المطلوبة للمواطن والمجتمع والدولة. المسار الأول هو وضع السياسات على اعتبارات «عقلانية» مفارقة للتقاليد والتعليلات اللامنطقية. أهمها إعادة النظر في العلاقات السائدة بين المواطن والمجتمع والدولة من جهة وبين الثروة والمجتمع من جهة ثانية. إعادة تعريف هذه العلاقة على أساس أن المواطن هو المالك الحقيقي للدولة وللثروة، وبالتالي فإنه سوف يتحمل مسئولية تمويل الدولة او جزء يزداد تدريجيا وبالتالي فله الحق الأول في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جو من الشفافية وتوفير المعلومات التي تمكنه من المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار. أي التحول التدريجي الى السلطة المتداولة. هناك فئات لها مصالح تتعارض مع هذا المسار وسوف تحاول تقويضه لأنه يفترض علاقة تقوم على أساس المواطنة المتساوية من دون امتيازات او تصنيفات ازدرائية او تخوينية للمواطنين.
المسار الثاني هو إعادة الاعتبار لقيم المجتمع التي شوهتها مرحلة النفط وهي قيم العمل وربط المردود بالجهد المبذول في جميع المستويات وإلغاء أي نوع من الامتيازات. لن يكون ذلك سهلا بعد ان تراخت الهمم وتفاقمت الاتكالية، كما ان نجاح ذلك سوف يعتمد على توافر القدوة من قيادات المجتمع المختلفة ومراجعة الامتيازات التي اعتادتها.
المسار الثالث تغيير مفاهيم التنمية التي كانت سائدة على مدى أربعة عقود. لا يمكن الدخول الى مرحلة ما بعد النفط بمفهوم التنمية القائمة على الاستهلاك، مثل بناء الجزر والإنشاءات والمباني. هذا النوع من التنمية لا يخلق ثروة وانما هو إنفاق استهلاكي للثروة، وحتى الإنفاق على البنى التحتية في هذه الحالة هو غير إنتاجي وصيانته ستمثل عبئا بعد انحسار النفط. أما خلق الثروة فإن مصادره الإنتاج بأنواعه السلعي والخدمي والمعرفي. تغيير الذهنية لدى القيادات ذات المصالح المرتبطة بنمط الاستهلاك قد يكون أصعب من تغيير ذهنية العامة من الناس.
المسار الرابع هو ضرورة اعتماد التخطيط العقلاني للتنمية القائم على المساواة الاجتماعية والاقتصادية، أي ان احترام الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو شرط مسبق لعملية التنمية، وفي هذا المجال فإن دول الخليج في وضع أفضل من غيرها حيث انها تملك كوادر قادرة على التخطيط لو اتيحت لها الفرصة لوضع الخطط والاستراتيجيات واعطيت صلاحيات اتخاذ القرارات. لكن ذلك يفرض انفتاحا ديمقراطيا يضع المسئولية على جميع القوى الوطنية ويضمن المشاركة والرقابة المستمرة.
المسار السادس تحسين المؤسسات والمواقف وأهمها إزالة الحواجز بين الطبقات والطوائف الاجتماعية وتعزيز التنافس الحر بين افراد المجتمع بالظفر بالمراكز القيادية لتبرز الدولة على أنها تحتضن الجميع في مناخ صحي من المساواة. هذا التوجه من شأنه معالجة الولاء بوضع الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في قالب خاضع لقواعد معلومة ومتفق عليها.
هذه المسارات ليست شاملة ولا هي وصفة طبية ولكنها دليل عام يطرح تجارب دول أخرى مع التنمية في مواجهة الاستهلاك الذي عاشت فيه دول الخليج وشوه مجتمعها وأدخلها عالما لم تكن مستعدة له.