نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

الاسراف والتبذير يحدث في المال الخاص وفي المال العام. عندما كانت القيادات تحرص على العدالة وعدم الاسراف صلح الناس واعتبر الاسراف رذيلة، اما اليوم فهو مفخرة.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/14271/article/72338.html

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي في الأسبوع الماضي صورا لوليمة عشاء أقيمت على شرف أحد مشايخ القبائل في إحدى الدول الخليجية. تُظهر الصور ما يقارب العشرين ذبيحة وضعت على مائدة يجلس عليها أقل من عشرين رجلا. مظاهر البذخ ظاهرة على كل ما في الصورة. بذخ مستفز في وقت نشاهد صور الجوع والحرمان في كثير من البلدان، بما فيها البلدان الخليجية نفسها.
التعليق على الصور يظهر مدى رفض المواطنين لمثل هذه المظاهر، ولكن للأسف اصبحت عادات «الكرم» الزائد والبذخ والإنفاق المبالغ فيه من الظواهر المشينة في مجتمعاتنا الخليجية والعربية، تتجلى في المناسبات والأعراس والعزاء. قد يقول البعض إن عادة الكرم متأصلة في الثقافة العربية وخصوصا البدوية، لكن تلك حقبة لها منطقها وقيودها ودوافعها، واليوم نعيش حقبة مختلفة لها التزاماتها وملابساتها وظروفها. هذا لا يعني أن الإسراف كان مقبولا في مجتمع ما وغير مقبول في مجتمع آخر. فالإسراف عادة مذمومة أخلاقيا ودينيا في كل الظروف.
والسؤال، لماذا تستمر هذه العادات وتتزايد مظاهر الترف والبذخ؟ ولماذا تنتقل العادات من طبقة اجتماعية إلى أخرى ويعم التقليد الأعمى لمن هم أكثر ثراء؟ كيف يؤثر المجتمع في هذه الظاهرة؟ وما تأثيرها على التنمية في الدول الخليجية، وخصوصا بعد انخفاض أسعار النفط، وظهور العجز في الميزانيات الخليجية، والحاجة المتزايدة إلى رؤوس الأموال؟
قبل أسابيع كتب الاقتصادي جعفر الصائغ مقالا بعنوان «ظاهرة التباهي والتفاخر والى أين تأخذنا». أورد في حديثه تأثير المجتمع في سلوك الأفراد، والتباهي باقتناء السلع الفاخرة للمباهاة والمسايرة والتقليد الأعمى لمن حوله. إن مجتمعاتنا تعم فيها كثير من الجهل والاتكالية والعيش على ما ينتجه الآخرون يتصرف بهذا الإسراف والبذخ والمباهاة، فأي قيم ينقلها إلى الأجيال القادمة؟ هذا السلوك من الطبقات المترفة له عواقب اجتماعية ضاغطة تعقد حياة متوسطي الحال وتدفع البعض منهم إلى التقليد. أصبحت عادة المباهاة والتقليد مرضا اجتماعيا يعيق التنمية ويبدد الثروة التي يمكن استخدامها في الإنتاج. أي أنه سلوك مناقض للتنمية، ويحرم المجتمع من رأس مال كان يمكن أن يستخدم في توسيع القاعدة الإنتاجية. علينا أن ندرك أن قدرتنا الإنتاجية في المستقبل تعتمد إلى حد بعيد على قدرتنا على التوفير اليوم، والإسراف هو استنزاف لهذه القدرة.
عادةُ الإسراف هذه موجودة كذلك في المؤسسات الرسمية والحكومات. فمثلا عندما نرى صورا لقيادات ورؤساء العالم يجتمعون لبحث قضايا مصيرية نجد أن المجالس والقاعات التي يستخدمونها والأثاث وجميع ما في القاعة ينم عن وعي بقيمة الأشياء وعن إدراك بأهمية المضمون والنتائج التي تخرج من الاجتماع. وإذا قارنا ذلك بالصور التي تصل إلينا من قاعات الاجتماعات والمجالس الخليجية والعربية نجد الفرق الشاسع في البذخ والزخرف. هذه المناظر تبعث في المواطن التذمر عندما يرى أنه يحاسب على الدينار والدرهم، في الوقت الذي تنفق الأموال من دون حساب عل مظاهر زائلة. كذلك تؤثر في نظرة الآخرين إلينا وتعطي صورة مشوهة للإنسان الخليجي والثقافة العربية والإسلامية بشكل عام.
تاريخ الثورة الصناعية في أوروبا يقدم لنا نماذج عن تفاعل القوى المؤثرة التي أدت إلى قيام هذه الثورة والعوامل التي أنتجتها. كثير من هذه العوامل ملموسة، نقلت المجتمع من اقتصاد الإقطاع إلى اقتصاد السوق. لكن العوامل غير المحسوسة التي تمثلت في القيم والأخلاقيات الدينية لا تقل أهمية.
قام التطور الهائل في أوروبا (في بعض جوانبه) على عقيدة ثيولوجية في تعاليم الكنيسة البروتستانتية وبالذات تعاليم جون كالفن (1509-1564) تمجد الادخار وحسن استخدام المال والاعتدال في الإنفاق. هذا المذهب المسيحي يؤمن (كما في بعض المذاهب الإسلامية) بالقضاء والقدر وأن الله قد كتب على كل إنسان مصيره، ولا يمكن للإنسان أن يغير هذا المصير. لكن هذا الاعتقاد اختلف وتحور في إنجلترا وهولندا ليكون الاعتقاد بإمكانية النجاة من المصير والنار بالعمل الصالح، وهذه الحياة الصالحة تعني بالنسبة إليهم التفاني في العمل والتمسك بالقيم الإنسانية.
ومن أهم هذه القيم حسن استخدام الموارد وعدم الإسراف (thrift frugal) (ويعتبر ذلك تكليفا مباشرا من الله واختبارا له)، وهو دليل على صلاح هذا الإنسان وطاعته لما كلفه الله به، سواء كان ذلك في التجارة أو في موقع المسؤولية أو في أي عمل آخر. هذا الاعتقاد بحسن استخدام الموارد وربط العمل الجاد الصالح المنتج مع الصلاح الآخروي ومغفرة الرب، تمت ترجمته إلى «كلما كان الإنسان ناجحا في عمله كان الأقرب إلى الله».
وفق هذا المذهب فإن خلاصة التكليف (calling) «إن الإنسان مطالب بالاجتهاد والمثابرة في العمل والإنتاج وجمع المال، وكذلك، وهو الأهم، مطالب بالتعقل في إنفاق المال وحسن استخدامه، وأن التوفير فضيلة، واستثمار المال في الإنتاج جزء من طاعة الله».
لا يختلف الإسلام في رسالته ونهج الخلفاء الراشدين وبعض الصحابة وآل البيت عن ذلك وممارسة هذه الأخلاق التي ترفض الإسراف والتبذير والبذخ. حاربت الرسالات السماوية والنهج الإسلامي هذه العادات والتقاليد ووضعت قواعد للكرم والإنفاق، وحددت أوجه الصرف ورفضت الإسراف. ومثلت القيادات في صدر الإسلام القدوة الحسنة «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة». لذلك صلح المجتمع بفضل قياداته وقدوته، وحسن استخدامهم للمال باعتباره مالا عاما يخص المسلمين. صلح المجتمع بصلاح قدوته والتزامهم بالنزاهة والفضيلة فاستقام شبابهم وتفانى شعبهم وقويت شوكتهم ودانت لهم الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *