- عودة للمراجعات- ظاهرة الاستهلاك غير الضروري
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ٠٨ مارس ٢٠١٧ –
انتهينا في مقال الاسبوع الماضي بطرح سؤال حول التحديات في منطقة الخليج الناتجة من تدني اسعار النفط وخياراتنا التنموية لمعالجة. والسؤال الذي تم طرحه والذي نرى ضرورة تداوله وتعميق النقاش حوله على مستوى البحرين وعلى مستوى مجلس التعاون هو: هل الحل لتدني سعر النفط هو اقتصادي بحت، ام ان الوضع الراهن يدعوا الى حلول شاملة تطال المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وما دور الدولة و المجتمع والمواطن والمجالس المنتخبة في هذا النقاش؟
اذا كان النشاط الاقتصادي يقرر عمليات خلق الثروة وكيفية توزيعها في المجتمع. فهذه عمليات ليست مستقلة بل لها علاقة وطيدة بحالة الامن والاستقرار في البلاد والتي بدورها تعتمد على مستوى الحريات ومستوى المشاركة السياسية في صنع القرار وفي تحمل المسئوليات والعدالة في توزيع الثمار. لذلك نرى ان الحلول الشاملة والمراجعات العميقة لمسيرتنا القطرية والخليجية تكستب اهمية كبيرة بعد ان اصبحنا على المحك ومستقبلنا مرتهن بقدرتنا على ايجاد البدائل للنفط وخلق البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المناسبة للتنمية.
من هذا المنطلق نرى ان الوقت قد حان لاجراء مراجعات عميقة في مسيرتنا منذ بداية الالفية الثالثة. المراجعة لا بد وان تستند الى ثوابت واسس ننطلق منها والواقع يحتم علينا (نحن في البحرين) ان نعتبر الميثاق الوطني هو نقطة الانطلاقة ونقطة المراجعة كونه يمثل اجماع وطني.
يمكن تناول المراجعات هذه من خلال ثلاث محطات رئيسية في مسيرتنا الاصلاحية. المحطة الاولى هي الميثاق الوطني، والمحطة الثانية هي الرؤية الاقتصادية 2030 والمحطة الثالثة هي احداث فبراير 2011. هذه المحطات تمثل فرصة للمراجعة والاستفادة من الدروس التي خرجنا بها. كما ان المراجعة ينبغي ان تكون على مستويات مختلفة، على مستوى الدولة وعلى مستوى المجتمع ومكوناته من جمعيات سياسية ومؤسسات المجتمع المدني وعلى مستوى مجلس النواب وعلى مستوى المواطن.
تحدثنا في مقال سابق عن ضرورو المراجعة لقيم الميثاق ومبادئه وهل نحن فعلا نسير في المسار الذي رسمه لنا؟ وماذا تحقق حتى الان وماذا بقي في هذه المسيرة؟ كذلك تحدثنا عن ضرورة مراجعة احداث فبراير 2011 ولماذا حدث ما حدث وما هي الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من التجربة. كما دعونا الجمعيات السياسية ان تطرح نفس التساؤلات فيما يتعلق بدورها في احداث 2011 وان تبدأ التفكير في الانخراط في العملية السياسية دون تحفظات وان تعمل بجهد مضاعف لاصلاح المجلس النيابي من الداخل بخطوات صغيرة ومتراكمة تتفادى القضايا الخلافية وتركز على القضايا المشتركة.
اما على مستوى المواطن، شاء ام ابى، فان ملف مراجعة عاداته في الانفاق وسلوكه الاقتصادي اصبح موضوع للنقاش وقد تم فتحه في الندوة التي اقامتها جمعية الصحفيين، وعلى لسان معالي رئيس مجلس الشورى. تبعتها اخبار الخليج بمقابلات اجرتها مع نواب ورجال اعمال واختصاصيين تم طرح سؤال حول “ترشيد الانفاق في المجتمع البحريني والحد من القروض الشخصية التي بلغت 3.6 مليار.
اتضح من المقابلات ان هناك نوع من الاجماع على تفشي الاسراف والتبذير بدأت مع الطفرة النفطية في الثمانينات مدفوع بتسابق الاسر على تقليد بعضها بعض. وان شيوع هذه الثقافة هو نتيجة ضغوط اجتماعية، يبدأ الانفاق غير الرشيد من الاسر في قمة الهرم الاجتماعي والاسر الميسورة ويشكل ضغط على من هم دون ذلك. ثانيا ان ثقافة التبذير هذه هي تخالف الموروث من الثقافة الدينية والتقاليد المجتمعية التي سادت قبل الطفرة النفطية. ثالثا ان الاسراف ياتي من غياب الوعي بعواقب الاقتراض والاستهلاك غير العقلاني. رابعا ان الاسراف يشترك فيه المواطن والحكومة على السواء. وطالب المتحدثون بضرورة التصدي لهذه الظاهرة باستراتيجية طويلة المدى تشترك فيها الحكومة من خلال وزارة التربية والتعليم ووزارة الاعلام باشاعة ثقافة الانتاج والحد من الاسراف. وكذلك تكريس مفهوم التخطيط الاسري للميزانية وجعل التوفير عنصر اساسي في هذه الميزانية.
كمساهمة في المراجعة والنقاش نورد اهمية الثقافة المجتمعية في تغيير النمط الاستهلاكي ومصدره. نرى ان المساهمة في تفشي هذه الظاهرة تاتي من عدة جهات. اولا ان هذا السلوك له اساس في القياداة والنخب في المجتمع التي تقود هذا السلوك، وفي مجتمع صغير مثل البحرين فان الضغط الاجتماعي كبير ويشجع التقليد والصرف الزائد عن القدرة المالية للفرد.
من الموروث الثقافي في الخليج والناتج من الطفرة النفطية هو اولا: ان الكسب لا يربط بالعمل. تعودت فئات من الناس على الكسب دون جهد (عدم الربط بين الانتاج والكسب). فالجهد والاجتهاد لا يحقق النجاح المادي بالضرورة. فهناك الكثيرين في المجتمع صعدوا سلم التقدم الاجتماعي دون اي مساهمة في الانتاج. ثانيا: الدين الاسلامي يحث على الجهد والعمل لكن التقاليد فصلت بين العمل والكسب وجعلت التحصيل منفصل عن الاجتهاد، والتوفير لم يعد الوسيلة الوحيدة للثراء. ثالثا هناك مفهوم مجتمعي له اصل ديني وهو ان الرزق بيد الله ولا يعتمد على الجهد المبذول. هذا المفهوم يمكن ان يؤدي الى التواكل او يؤدي الى السعي.
وهنا لا بد من استدراك وهو ان التعميم في اتهام الموطن بالتبذير ليس دقيقا. فوفق وزارة العمل هناك 45 الف اسرة تعيش على اقل من 300 دينار في الشهر، ويوجد 120 الف اسرة تستلم المعونة الاجتماعية. ولا اعتقد انه من الانصاف اشراكهما في التبذير. ولكن يمكن القول انهنا يقعان في دائرة المتأثرين بالضغط الاجتماعي.
وهناك ايضا تساؤل: الى اي مدى هذا التشخيص دقيق؟ وهل وجود السيولة بالضرورة تؤدي الى الاسراف في الانفاق؟ ام ان الاسراف هي عادة (وثقافة) يكتسبها الانسان من البيئة المحيطة به وان الضغط الاجتماعي يأتي من الاعلى؟