- كيف نحارب الفساد؟
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
تاريخ النشر 10 اكتوبر 2007
في كلمته المنشورة في اخبار الخليج تصدى سمو ولي العهد الى أهمية محاربة الفساد واستئصالة من المجتمع وتحدث سمو رئيس الوزراء في نفس الموضوع. كذلك تطرق العديد من الكتاب والباحثين لهذه الظاهرة وخلصوا الى ان مكافحة الفساد عملية شاملة كاملة تبدأ من رأس الهرم وحتى القواعد.
ولكي تكون الحرب ناجحة وفعالة علينا ان نعرف انواع الفساد، فقد صنف المختصون الفساد تحت مسميات مثل الفساد الصغير الذي يقتصر على الرشاوى المحدودة لانجاز معاملات، والفساد الكبير الذي يطال المشاريع الكبيرة والمناقصات والعمولات. والتصنيف الاهم الذي سنتطرق له هو الفساد الفردي والفساد المؤسساتي او المنظومي (systemic corruption). الفساد الفردي يتعلق بفرد او افراد ضعاف النفوس تمتد ايديهم الى المال العام بشكل من الاشكال، ومكافحة هذا النوع من الفساد قد يكون اسهل بكثير حيث يكفي الجزاء الرادع والتطبيق الصارم للقوانين. اما الفساد الاخطر والاصعب في التعامل معه هو الفساد المنظومي الذي يستشري في المنظومة (سواء كانت شركة او وزارة او دولة) ليس لاسباب اخلاقية فحسب بل كون المنظومة واسلوب عملها ونظامها السياسي والاقتصادي وعلاقاتها الاجتماعية قائم على احتكار السلطة والثروة وخلط المال العام والخاص. كل ذلك يساعد على خلق بيئة صالحة لتكاثر الفساد واستشراءه ليعم المنظومة بكاملها حتى ولو كان رأس هذه المنظومة او رأس الدولة نزيها.
والسؤال الى اي حد تعاني الدول الخليجية من الفساد المنظومي؟ هذا النوع من الفساد يستشري في المجتمعات التي تتحسس من مناقشة قضاياها المفصلية والاساسية وتخشى من المحاسبة الحقيقية لمسئوليها وتمنحهم الحصانات والحماية. فلو اخذنا مثال على شركة خاصة يقوم صاحبها بادارتها بنفسة من خلال مساعدين، فسوف يكتسب هؤلا المساعدين سلطة مستغلين قربهم من هذا الشخص ويبدأ الموظفون والعمال بالتملق والنفاق والتطبيل والتاييد لاي كلام يقوله هذا المساعد او ذك وسوف يخلو الجو العام من اي نقاش فعلي يصل الى جذور المشكلة خوفا من الخطأ او التطاول على احد المساعدين. بل سيحاول الموظفون ارضائهم باي شكل املا في الحصول على معاملة خاصة او امتيازات. وتدريجيا سوف يخلق صف ثاني من المتنفذين القريبين من المساعدين وتبدأ عملية التملق والنفاق والتطبيل والرشاوى ويصبح النظام باكمله فاسدا مالم توجد ضوابط تحد من ذلك.
ولكون الفساد من أهم اعداء التنمية والتطور، فقد ارست منظمات عالمية قواعد للحكم الرشيد كعوامل مساعدة على كشف الفساد ومحاربته ووضع القوانين والتشريعات التي ترفع الحصانة عن اي مفسد مهما كان موقعه. ومن هذه القواعد حكم القانون والمساءلة والشفافية واطلاق الحريات الفردية وحرية الصحافة في مناقشة جميع القضايا وطرح كل الاحتمالات وتتبع المشكلة الى جذورها التي يقود لها التحليل العلمي الموضوعي دون توقف بسبب الحساسيات والمحسوبيات والحصانة الدستورية او البرلمانية.
بعض انواع الفساد المنظومي يمكن معالجته باصلاحات هيكلية من داخل المؤسسة وبعضه يستعصي ذلك ويحتاج الى اصلاح اشمل يطال النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي حسب قول مايكل جونسون من جامعة كولجيت في الولايات المتحدة ويتلخص هذا الاصلاح في تمكين المجتمع وحمايته من العواقب المترتبية على التصدي للمفسدين من خلال تصميم نظم سياسية واقتصادية وموسسات مدنية قائمة على التوازن بين صلاحيات السلطة التنفيذية وصلاحيات مؤسسات المجتمع المدني وقدراتها التنظيمية، وعلى المساءلة والمحاسبة لكل انسان يتخذ قرار دون اي استثناء.
في الدول الديموقراطية توجد مثل هذه الضوابط التي تحد من استشراء الفساد مثل القوانين والهيئات المحاسبية ذات الصلاحيات الواسعة (في اسرائيل مثلا يخضع الجيش للتدقيق الاداري والمالي) ومن اهم هذه الضوابط هو القدرة على مناقشة جميع القضايا المصيرية والكبيرة بحرية تامة دون حساب لهذا المسئول او الرئيس او رئيس الوزراء فالكل معرض للمساءلة والمحاسبة وكثيرا ما نسمع عن محاكمات لكبار رجال الدولة. كذلك في هذه المجتمعات تنشط مؤسسات المجتمع المدني في كشف الفساد وملاحقة المفسدين وتساعدهم في ذلك قوانين وتشريعات تحميهم من الانتقام والتهميش والمكائد وتساعدهم في مقاضاة من تثبت ادانتهم.
اما في مجتمعاتنا الخليجية والعربية بشكل عام فانه من الصعب مناقشة اي قضية هامة مثل التعليم او الصحة او الاسكان او التنمية اوالامن القومي اوتوزيع الثروة دون ان يقف التحليل عند حد ويصدم بممنوعات ومحاذير وتقاليد واعراف وخصوصيات تختبئ خلفها الكثير من جذور الفساد وتخلق بيئة صالحة ينتعش فيها. فاذا كنا جادين في محاربة الفساد فان البداية تنطلق من افتراض ان كل انسان اذا توفرت له الصلاحيات المطلقة والحماية من المساءلة والملاحقة القانونية والسياسية سوف يكون مصدرا للفساد حتى ولو كان نزيها. ولنبدأ باضائة الكشافات لتسطع على الجميع ويعيش الكل في انوارها التي تكشف جميع التعاملات والممارسات وتضعها عرضة للنقد والتمحيص دون خوف او وجل او تستر على هذا وذاك. ويتم ذلك من خلال اصلاحات مؤسساتية ودستورية وتشريع قوانين تؤسس للعدالة الاجتماعية وتوسع خيارات المواطن السياسية والاقتصادية وتمنح الصحافة حرية تامة في مناقشة القضايا المصيرية والتطرق الى كل ما يعيق التنمية والتطور والتقدم وفتح باب الحوار فيها.
لا يكفي ان نقوم بملاحقة كل حالة فساد بالرغم من اهمية ذلك، فانه سرعان ما يظهر غيرها وغيرها. واكبر مقاربة هي مكافحة الامراض الفتاكة مثل الملاريا، تصور لو اننا تصدينا لكل بعوضة وتابعناها لنقتلها سوف لن ننتهي ولن نقضي على المرض، ولكن الاسلوب الامثل كان بالتصدي للبيئة الصالحة لتكاثر البعوض والقضاء على هذه البيئة. وكذلك الفساد المنظومي لا بد من القضاء على البيئة الصالحة لتكاثره والمتمثلة في السلطات المطلقة وغياب المساءلة والمحاسبة المدعومة من المجتمع المدني. ولكي يكون المجتمع المدني واعيا لهذا الدور يتوجب ان يكون مساهما في البناء والتمويل من خلال احساس قوي بان الثروة التي تتعرض للفساد هي ثروته. ويقول ويبر بان ذلك لن يكون الا من خلال نظام ضرائب فعال يجسد مفهوم الخدمة المدنية والملكية العامة للثروة. وسوف نتطرق الى هذا الموضوع في مقال اخر.