- مقترح انشاء هيئة مكافحة الفساد … خيارات ممكنة (2)
تاريخ النشر :26 يوليو 2011 طباعة 7
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
تحدثنا في مقال سابق عن أربعة نماذج مستخدمة في مكافحة الفساد. ورأينا انه من المناسب في هذا المقال التطرق الى النماذج بشيء من التفصيل لنبين للقارئ بعض المتطلبات المنظومية لنجاح جهود مكافحة الفساد.
يعتبر الفساد احد اهم عوائق التنمية وضياع الموارد المحدودة للدول والشعوب. لكن هل الفساد مشكلة في حد ذاته ام انه نتيجة لمشكلة اكبر تبدأ في النظام السياسي في الدولة وفي كيفية ادارتها للشئون المالية ولثرواتها الطبيعية ومفهومها لهذه الثروة وعلاقتها بالشعوب وبالحكام؟ يتعرض الكثير من الموارد للفساد لكن الجوانب الاكثر عرضة هي ادارة المصروفات والايرادات والاملاك العامة، ادارة المناقصات والمشتريات العامة، اسلوب التدقيق ونظامه وصلاحياته، كيفية التعامل مع تضارب المصالح وخصوصا في الاجهزة التنفيذية في الدولة.
عودة للنماذج الاربعة التي تحدثنا عنها فان نموذج هونكونج الذي تأسس عام 1974 هو الاكثر شمولية وفعالية ويقوم بثلاث وظائف هي التحري والتحقيق, والوقابة, والارشاد والتثقيف. يتطلب تطبيق هذا النموذج وجود اطار قانوني واضح وقوي وفعال مع صلاحيات واسعة للتحري في جميع شكاوى وحالات الفساد وتقديم الادلة الى الادعاء العام. يعتبر هذا الجهاز كبيرا ومكلفات فهو يتالف من 1200 شخص بميزاينة تقدر 90 مليون دولار ويتم انتقاء موظفيه وفق اختبارات خاصة وصارمة، ولا يحق لهم العمل في الحكومة بعد انتهاء عقودهم. يقوم الجهاز بمهامه من خلال ثلاث ادارات. الاولي ادارة التحري وهي الاكبر وادارة الوقاية التي تقوم بمراجعة القوانين وتقديم مقترحات لتعديلها، وادارة العلاقات المجتمعية التي تتواصل مع المجتمع حول التغييرات في القوانين وشرح اسبابها وبناء الوعي حول مخاطر الفساد وكيفية محاريته. يقدم تقاريره الى البرلمان والحكومة ويخضع لمراقبة برلمانية من خلال لجان اشرافية. اثبت هذا الجهاز نزاهته واستقلاليته بمتابعة كبار المسئولين وجعل هونج كونج من اكثر دول آسيا خلوا من الفساد بالرغم من اقتصادها الحر.
نموذج اخر في سنغافورة تم انشاؤه عام 1950 على اثر حالة فساد تورط فيها مفتش الشرطة. لم يستطع الجهاز الحد من الفساد الى عام 1970 عندما اعيد تنظيمه على عقيدة تنموية تتكون من اربع نقاط تعتبر مكافحة الفساد:
- جزءا لا يتجزاً من الحكم الرشيد لصالح المواطن.
- لها اهمية كبيرة في الاستراتيجية الوطنية للتنمية.
- تعطي دفعة قوية للتنافسية وجنب المستثمرين.
- تساهم في تطبيق معيار الكفاءة والمساواة في التوظيف والتعيينات.
تم منح الجهاز الكثير من الصلاحيات من ضمنها التحقيق وتقديم المتهم الى النيابة. ومصادرة الاموال والاراضي التي تعرضت للفساد من المفسدين. وتجريم اي اموال تدفع لاي جهة او موظف حكومي وزيادة مدة السجن والغرامات. بالرغم من صغر حجمه، الذي لا يتجاوز 75 شخصاء، والنظام السياسبي شبه الشمولي فإنه نجح في تخليص البلاد من آفة الفساد. يُرجع المراقبون هذا النجاح الى اصرار القيادة السياسية على محاربة الفساد وايمانها بانه اخطر اعداء التنمية. يرتبط الهجاز برئيس الوزراء مباشرة ويستمد قوته منه. مساوئ هذا النطام انه يفتقر الى الشفافية وغياب اي لجان اشرافية برلمانية ويعتمد في نجاحه بشكل اساسي على نظافة يد رئيس الوزراء ونزاهته الذي استطاع ان يبني ثقافة تقوم على مبدأت النزاهة اساس التنمية.
النموذج الثالث مستخدم في استراليا (New South Wales) ووضع بالدرجة الأولى للتصدي لتغلغل تجارة المخدرات وانغماس رجال الشرطة والقضاة والبرمانيين في انشطتها. انشئ الجهاز في 1987 على غرار ما هو موجود في هونج كونج لكنه يختلف من حيث التركيز في الوقاية بدلا من التحري والتحقيق. لاقى نجاحا كبيرا واكتسب مصداقية عندما استطاع ان يدين المسئول الذي اسس الهيئة وهو رئيس الوزراء في قضية توظيف شخص لا يستحق الوظيفة مما اجبره على الاستقالة. اعتمد الجهاز ثلاثة مبادئ لمحاربة الفساد هي الوقابة افضل من العلاج، الوقاية افضل من العقاب، الوقاية افضل من ادارة الفساد. يقدم تقارير سنوية الى البرلمان. ويعمل تحت اشراف لجنتين الاولى برلمانية والاخرى لجنة مراقبة العمليات لمنع استبدادها في المجتمع. كما يحدد نظامها استبدال رئيسها بعد مدة محددة.
النموذج الرابع الأمريكي يعتمد على تعدد الاجهزة والتي تقوم بالمهام الثلاث وهي التحري والوقاية والارشاد. في عام 1978 تم تأسيس جهاز أخلاقيات الحكومة (OGE) المعني بمراقبة حالات تضارب المصالح واقتراح القوانين المحددة له. كذلك جهاز محاكفة الفساد يقوم بالتحريات وتوضيح القانون للمواطنين ويرسل الحالات التي يشك فيها الى وزارة العدل للتحقيق. كذلك يعتمد المجتمع في مكافحة الفساد على الصحافة والرأي العام الذي اثبت في كثير من الحالات قدرته على اكتشاف حالات الفساد.
تبنى الكثير من الدول احد هذه النماذج لكن التجارب تبين ان الدول التي نجحت في محاربة الفساد هي اولا: تلك التي تصرفت من وحي قناعة قياداتها ومطالبة داخلية بأهمية القضاء على الفساد لخدمة التنمية وليس لتحسين السمعة في الخارج اواستجابة لضغوط البنك الدولي او اي جهة خارجية. ثانيا هي الدول التي تمكنت من تحقيق توافق في المجتمع على اهمية مكافحة الفساد واجراء التغييرات السياسية اللازمة لتجنيب الدولة اخطار ازمة مالية او ازمة سياسية تهدد كيان الدولة وقياداتها السياسية للخطر. ثالثا ان الدول التي نجحت هي الدول التي تتمتع بمجتمع مدني واع وصحافة حرة وقضاء مستقل.