- منطلقات الحوار الوطني
تاريخ النشر :15 مارس 2009
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
في مناسبات سابقة أُطلقت نداءات للحوار الوطني وكانت هناك محاولات لتنظيم حوار بين قوى سياسية شاركت الحكومة في بعضها غير ان نتائجه لم ترقى لمعالجة اي قضية وبقيت توصياته حبيسة الادراج. وهانحن امام نداء من أعلى سلطة وهي جلالة الملك للمباشرة بحوار وطني يتبناه النواب لمعالجة الوضع المتأزم في البلاد. لم يضع جلالته شروطا على الحوار وبالتالي فان المسئولية تقع على مجلس النواب لاخراج الحوار وجعله فاعلا في معالجة قضيا المجتمع .
كُتب الكثير حول هذا الحوار وطبيعته وتساءل البعض عن لماذا الحوار؟ ومن يتحاور مع من؟ وماهي النتائج المرجوة من الحوار؟ والتساؤلات في هذا المجال كثيرة منها هل المجلس الوطني هو المكان المناسب للحوار؟ في حين يرى البعض ان الحكومة هي الجهة الامثل لتبني الحوار او المشاركة الفاعلة فيه، بينما ذهب اخرون الى القول بان جلالة الملك هو الجهة الوحيدة القادرة على انجاح الحوار. كما نتساءل ماهي العقلية التي سيتبناها النواب في الحوار والهدف الذي سيضعونه والنتائج التي يريدونها من الحوار. اي ان المجلس يمكن ان يكون المكان المناسب لو التزم بقواعد موضوعية للحوار واهداف واضحة ونتائج مأمولة محددة.
مهم جدا ان ننجح من خلال الحوار في معالجة القضايا التي تسببت في التأزيم. ولكن السؤال هو هل بالامكان بالعقلية السائدة والمواقف المتخذه من قبل القوى المختلفة ان نتناول قضايا حساسة وان ننجح في معالجتها؟ النجاح سوف يتطلب الاتفاق على عدد من الامور الاساسية. منها المرجعية للحوار. فهناك من اشترط ان يكون الدستور مرجعية للحوار، في حين يرى اخرون بان احد اسباب التأزم هو الخلاف على بعض مواده. من متابعة ما كتب في هذا الصدد نجد ان المرجعية التي تحظى باتفاق وطني هي الميثاق. لذلك نرى ان الميثاق الوطني هو المرجعية والارضية الجامعة التي يمكن ان تقود الى نوع من النجاح. كذلك من الاسس التي اتضح انها ليست موضع خلاف هي شرعية الحكم فهذه من الثوابت غير المطروحة للحوار وليست من القضايا الخلافية لذلك فهي ارضية صلبة يمكن ان تقود الى النجاح لو ركزت القوى السياسية، وخصوصا المعارضة، على تعميقها وابرازها عمليا لازالة التوجس الذي نستشعره في قرارات وممارسات قطبي البرلمان ونظام الحكم. كذلك من عوامل النجاح لهذا الحوار هو عدم اقصاء او تخوين احد وعدم وضع اي خطوط حمراء باستثناء ما سبق الاتفاق عليه من الثوابت والاسس. وايضا هناك عوامل اخرى هامة هي الاتفاق على قيم يلتزم بها الجميع اثناء الحوار مثل توخي العدالة والمساواة والمساءلة والمحاسبة وهذه قيم ومبادئ وردت في الميثاق.
والان نأتي الى صلب الموضوع ونتطرق للسؤال الهام وهو على ماذا نتحاور؟ في علم الفكر المنظومي الاجتماعي (Soft System Thinking) هناك مفهوم يعرف بالمنطلق للحوار او للحل. وهذا يمثل وجهة النظر التي ستُعتمد لتحديد مواصفات المجتمع وتحليله ووضع الحلول لقضاياه واختيار المؤشرات المستخدمة في التقييم. اي اننا نبدأ من نقطة أو وجهة نظر محددة نتفق عليها جميعا ونقر بأهميتها ونحاول توخي الموضوعية في الكشف عن المعوقات التي تقف في طريق تحقيقها باستخدام ادوات تحليل ادارية مثل العصف الذهني والاسئلة المتتالية، وغيرها من الادوات التي اثبتت نجاعتها في التحليل الاجتماعي والاداري. فماهي وجهة النظر هذه التي يمكن ن تجمعنا ونتفق على أهميتها؟
لتحديد المنطلق أو وجهة النظر هذه يمكن ان نصنف القضايا الخلافية في المجتمع الى ثلاث فئات وهي قضايا معيشية (تنموية)، قضايا حقوقية، وقضايا سياسية. ونرى ان هناك فرصة أكبر لنجاح الحوار لو بدأ بالقضايا المعيشية وتأثيرها على الرخاء الاقتصادي ومستقبل الاجيال والامن القومي بشكل عام، حيث ان وجهة النظر هذه يمكن ان يُجمع عليها غالبية المواطنين والقوى السياسية والحكومة.
والان ماهي القضايا المعيشية التي يبدأ بها الحوار وماهو الافق الزمني لهذا الحوار؟ إن تقدم الشعوب ورخاءها يعتمد على نوعية الخدمات التي تقدمها الحكومات، وأهم هذه الخدمات هي التعليم والصحة والاسكان وادارة الاقتصاد. وان جودة هذه الخدمات وعدالتها ونزاهتها وفاعليتها كفيل بان يُحوِّل المجتمع الى مجتمع ديموقراطي انتاجي قد يستغني عن الطائفية والمحسوبية. ولو ركز البرلمان من خلال الحوار على هذه القضايا وخصها بالتحليل واشرك قوى مجتمعية (موالاة او معارضة) وجمعيات مدنية وشخصيات متخصصة سوف يتمكن من التوصل على الاقل الى المعوقات الموضوعية التي تعترض التطور في هذه المجالات، وقد يستغرق ذلك سنوات.
واخيرا علينا ان نعي ان بعض هذه المعوقات ستكون ذات طابع سياسي وانه لا يمكن فصل السياسة عن القضايا المعيشية. فمثلا لو اخذنا الاسكان سنجد ان من المعوقات هي الميزانية وقلة الاراضي. هذا سوف يدخلنا في قضايا توزيع الثروة وتخصيص الاراضي وفق محسوبيات وسوف يدخلنا في عمق الصراع على الثروة. كما ان اصلاح التعليم والصحة سوف يؤدي الى مناقشة قضايا حساسة تتعلق بالتعيينات والميزانية واسباب عدم تخصيص ميزانية مناسبة للبحث والتطوير. واذا تحدثنا عن ادارة الاقتصاد سوف نتطرق الى الاولويات والقوانين التي تحمي بعض المصالح على حساب مصالح اخرى. وجميع هذه القضايا هي في الواقع لها جانب سياسي وسوف يتطلب علاجها الى ادوات ديموقراطية مثل حرية التعبير ومحاسبة ومساءلة متخذ القرار والاحتجاج السلمي والتكتل وفق المصالح. ولكن، كون المنطلق والهدف العام هو تحسين الوضع المعيشي، فقد يكون تناول هذه القضايا الشائكة اقل حدة والوقوف ضدها لن يكون مقبولا جماهيريا.