نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

بدون هيئة مستقلة لمكافحة الفساد وبدون استحداث امتحانات الكفاءة والمنافسة في التعيين والترقية والتوظيف في القطاع العام فان تعديل القانون ومنح ديوان الرقابة حق التحويل الى النيابة لن بعالج الفساد وتدني الاداء.

http://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1116078

في هذه الأيام التي يتزايد فيها الدين العام وتكبر عجوزات الميزانيات وتتعدد الرسوم والضرائب ويتراجع فيها الدعم المالي للخدمات، فإن أي جهد في رفع كفاءة الإنفاق العام والمحافظة على المال العام وترشيده ووقف الهدر يعتبر خطوة مهمة وضرورية. على هذه الخلفية تحرك مجلس النواب وقدم تعديلا في قانون ديوان الرقابة المالية والإدارية (الديوان) بإلزامه إحالة أي مخالفة تنطوي على جريمة جنائية إلى النيابة العامة.

قررت اللجنة المالية بمجلس الشورى رفض التعديل الذي يلزم الديوان إحالة أي مخالفة تنطوي على جريمة جنائية إلى النيابة العامة. تستند اللجنة في رفضها على النص الوارد في القانون والذي يجيز للديوان الإحالة إلى النيابة. لكن هناك (catch 22) تشكل معضلة. والمعضلة هي في العبارة التي تقول «شرط أن يتوافر لدى الديوان أدلة جدية وظاهرة على وجود جريمة جنائية من دون إجراء تحقيق». لذلك تؤكد اللجنة في ردها على ان التحقيق هو مهمة مستقلة ولا تندرج تحت مهام الديوان. وتورد اللجنة في رفضها عدة مبررات.

أولها: ان هذا يحول الديوان من جهة رقابة وتدقيق إلى جهة تحقيق. التحقيق ليس من مهام الديوان وهو غير مهيأ لذلك وإعطاؤه هذا الواجب سوف يضر بعلاقته مع الوزارات وقد يؤدي إلى عدم التعاون معه. ثانيا: ترى اللجنة ان إقرار التعديل سوف يعرض الديوان للمراقبة والنقد من المجلس النيابي وكذلك يعرض قراراته للرفض من النيابة العامة في حالة عدم اقتناعها بالأدلة المقدمة، وهذا يقلل من هيبته أمام الهيئات التي يدقق عليها. ثالثا: ان التعديل قد يؤدي إلى الإضرار باستقلالية الديوان ويؤثر على تعاون الأجهزة الحكومية معه، ليس من الواضح كيف ستتأثر هذه الاستقلالية، لكن قد تتأثر قدرته على التوفيق بين التدقيق وما يتطلبه من ثقة نسبية بينه وبين الجهات المعنية وبين متطلبات التحقيق وما يفرضه من علاقات مختلفة.

قد تكون هناك وجاهة فيما جاء به مجلس الشورى لرفض المقترح، لكن تبقى المعضلة الأساسية من دون علاج وهي كيفية التعامل مع تزايد المخالفات وما يصاحبها من امتعاض مجتمعي ذي كلفة اجتماعية كبيرة، وخصوصا في وضع أصبح المواطن مجبرا على تحمل أعباء كبيرة.

فحالة اللامبالاة التي كان المواطن يتصف بها قد لا تستمر مع استمرار الهدر واتساع دائرة التجاوزات ووجود شبهات فساد. ان إحالة الأمر إلى النيابة لن يعالج القضية لأن النيابة هي مؤسسة تعمل بعد وقوع الجريمة وليست جهة حماية ولا تجيب عن السؤال: هل من الممكن توافر أدلة على شبهات الفساد التي عادة ما تكون مغلفة ومخفية ومحمية حتى مع التحقيق الجنائي؟ وهل المناخ الإداري والعلاقات في الأجهزة الإدارية تسمح بمثل هذا التحقيق حتى لو قدر له الوصول إلى تلك المرحلة؟ لا يبدو انه من المنطقي أو المعقول توقع ذلك، والأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد تحقيق بل يتطلب ترصدا وإجراءات مسبقة ويحتاج إلى سلطات تختلف عن السلطات التي يمتلكها الديوان أو حتى النيابة العامة، وإلى حوافز تختلف عن تلك الموجودة حاليا.

نمر الآن بظروف غير اعتيادية قد تؤثر على الأوضاع الاجتماعية ما لم نبادر بإصلاح إداري للأجهزة المعنية لكي نتمكن من تطبيق الرقابة والمساءلة والمحاسبة الحقيقية على الأداء والإنتاجية وتحقيق أهداف برامج الدولة وليس فقط مكافحة الفساد.

أهم عنصر في هذا الإصلاح الإداري هو اعتماد مبدأ الامتحانات للقبول للتوظيف والتعيين والترقي. وقد اضطرت دول كثيرة إلى اعتماد نظام الكفاءة في الاختيار بعد ان فشلت جهود كثيرة في الإصلاح وبعد ان اتضح ان الكلفة عالية جدا وخصوصا في الحروب التي خاضتها هذه الدول. فمثلا بدأت الصين هذا النظام قبل ألفي سنة (إمبراطورية Qin وبعدها Han) بعد ان تعرضت للغزو وفشلت في صد الاعتداءات وفي إيصال المؤن إلى الجنود على الجبهات بسبب ضعف الجهاز الإداري. وعملت بريطانيا على الإصلاح بعد ان تكبدت خسائر كبيرة في حرب الكريمين مع روسيا في 1854 بسبب فشل لوجستي وإداري.

وعمدت ألمانيا إلى الإصلاح الإداري عام 1770 وتعزز بعد هزيمة 1806 من نابليون وبدأت الدولة الحديثة، وعمدت أمريكا إلى الإصلاح وفق قانون بندلتون 1883بعد ان تعرض رئيسها لمحاولة اغتيال بسبب التذمر الناجم عن عدم العدالة في التوظيف.

أي ان الإصلاح تفرضه الظروف الصعبة ونحن نمر بمرحلة غير مسبوقة. الإصلاح المطلوب يتكون من خطوتين متزامنتين، الخطوة الأولى تتعلق بإنشاء هيئة عامة لمكافحة الفساد ترتبط بمجلس النواب على ان تمنح سلطات تحر وترصد وتحقيق تحال منها القضايا إلى القضاء. وهناك تجارب كثيرة يمكن الاستفادة منها مثل هونج كونج بشكل خاص.

والخطوة الثانية تتعلق بالجهاز الإداري في الدولة وهي خطوة طويلة الأمد تبدأ بامتحانات القبول في جهاز الدولة، يتولى الامتحانات ديوان الخدمة المدنية وفق معايير شفافة لا تعتمد على العائلة أو الوضع الاجتماعي ولا يتدخل فيها احد وتتوقف الاستثناءات في التوظيف والتعيين والترقيات وجميع أشكال المحسوبيات والوساطات. ويخضع نظام الترقي فيها للمنافسة بين أكثر من مرشح يخضعون لقواعد شفافة ونزيهة وبمعايير محددة مسبقا يعلمها الجميع ويكون الحَكَم فيها ديوان الخدمة المدنية مع إمكانية الاستئناف. وأي تدخل فيها سيؤدي إلى فشلها.

لقد أصبحت الحاجة إلى الإصلاح في الجهاز الإداري للدولة وخصوصا في عملية التوظيف والتعيين والترقي والمساءلة والمحاسبة ووقف التجاوزات ضرورة ملحة ومصلحة عامة. ويجب الإسراع في علاجها. فتحقيق الكفاءة في الأداء والمحافظة على المال العام وتطوير وتنمية الاقتصاد وتنويع مصادره لا يحدث بمجرد التمني والوعود، بل يحتاج إلى تعديل في المؤسسات وتعديل في السلوك وتعديل في الحوافز (الايجابية والسلبية). إن استمرار الوضع السابق في التعيين وفي الترقي والتوظيف وفق معايير القرابة والمحسوبية هو عامل مساعد في عدم القدرة على التصدي لممارسات الهدر والتجاوزات والملاحظات التي نحاول علاجها. كذلك يحتاج الأمر إلى تغيير في الذهنية التي تتعامل مع القطاع العام في جميع جوانبه ومستوياته وإدخال عنصر المنافسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *