نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

البنك الدولي وطريق آخر لإصلاح التعليم (2)

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ٠١ أبريل ٢٠٢٠ – 02:00

في المقال السابق (أخبار الخليج 25 مارس 2020) تطرقنا إلى تقرير البنك الدولي (الطريق الذي لم نسلكه بعد)، الذي تناول مسيرة التعليم في المنطقة العربية وتأثيره الاجتماعي الكبير في معالجة الفقر وعدالة توزيع الثروة ورفع المستوى المعيشي بشكل عام، لكنه في الوقت نفسه يصل إلى نتيجة أن هذه الدول لم تتمكن منذ الستينيات من بناء منظومة تعليم فعالة قادرة على توفير متطلبات السوق، ولم يصل السوق إلى التطور الكافي الذي يستطيع استيعاب المتعلمين في أكثر الأعمال كفاءة. وبالتالي، فإن هناك حاجة إلى سلوك طريق آخر، وتساءلنا ما هو هذا الطريق؟

اعتبر التقرير أن جهود الإصلاح السابقة جزئية وغير فعالة في كثير من الأحيان. في الحالات التي حققت نتائج تعليم جيدة نسبيا، وجد أن هذه البلدان تمتلك أنظمة تعليمية أظهرت نجاحا في توفير المتطلبات المادية والفنية (واعتبرها إصلاحات في «الجانب الهندسي») ووفر حوافز مؤثرة ومساءلة ومحاسبة أفضل من بقية الدول. استنتج من ذلك أن المنطقة بحاجة إلى إحداث تحول في طريقة تصميم وتنفيذ إصلاحات التعليم (الجانب الهندسي). يرى التقرير أن الظروف التي يعمل من خلالها التعليم وتأثيره على التنمية الاقتصادية والاجتماعية قد تغيرت وفرضت تحديات عدة سوف تواجهنا في أي طريق نسلكه، وهذه التحديات هي: 

أولا، العولمة وزيادة أهمية التعليم (لخلق المعرفة) في عملية التنمية. فعلى التعليم أن يتغير ليوفر المهارات والخبرات للنجاح في البيئة التنافسية العالمية. 

ثانيا، المستفيد من التعليم (الطالب وأولياء الأمور) قد تغير وأصبح أكثر مطالبة بالمشاركة، ومن ناحية أخرى، ولأسباب مرتبطة بالعولمة واقتصاد المعرفة، ستحتاج نسبة أكبر من السكان إلى اكتساب مهارات أساسية ومحددة، فعلى منظومة التعليم أن تكون أكثر فعالية في نقل المهارات والقدرات إلى الجميع. 

ثالثا، مواجهة هذه التحديات ستكون مكلفة، فعلى دول المنطقة معرفة كيف ستوصل هذا التعليم وكيف سيتم تمويله إذا أرادت النجاح. 

الطريق الآخر الذي يقترحه التقرير يستخدم إطارا تحليليا له ركيزتان، الأولى مقاربة مختلفة لإصلاح التعليم يكون التركيز فيها على ثلاثة عناصر الأول هو الاهتمام بالعملية التعليمية نفسها (إصلاحات في «الجانب الهندسي» وهو يتعلق بكل ما يدخل ضمن عملية التعليم والتعلم من حيث بناء مدارس وتوظيف مدرسين أكفاء وزيادة عدد الفصول وتوفير اللوازم من كتب ووسائل حديثة. العنصر الثاني هي الحوافز والتحفيز المرتبط بالنتائج سواء للمدرسين أو للمدارس، والعنصر الثالث المساءلة، وهي المساءلة التي يفرضها الطلبة وأولياء الأمور والمجتمع على المسؤولين عن التعليم تجاه المجتمع. أما الركيزة الثانية فهي تقليص الفجوة بين العرض (خريجي التعليم) من الشباب المتعلم وبين طلب السوق على المتعلمين من داخل البلاد وخارجها. هذا يعني تنويع اقتصادي يقوم على قطاعات الصناعة والإنتاج يستوعب مختلف التخصصات. 

استخدمت الدراسة هذا الإطار التحليلي لتحديد أين تكمن المشكلة، ويحاول رسم إصلاحات مستقبلية للإجابة عن السؤال الجذري: لماذا لم تحقق دول المنطقة عوائد اقتصادية للأفراد والمجتمع من جراء الاستثمار في التعليم؟ يستند البحث عن الجواب في التعامل مع هذا الإطار على انه منظومة واحدة من الإجراءات والسياسات والتكامل فيما بينها، وضعت في ثلاث فرضيات. الفرضية الأولى هي أن مشكلة نظام التعليم على جميع المستويات مشكلة فنية بطبيعتها تتعلق بمدخلات التعليم من حيث الكمية والجودة والمزيج المناسب بين هذه المدخلات وقدراتها الاستيعابية (مثل المدارس وجودة المعلمين ونوعية المناهج وحداثة الكتب المدرسية) للحصول على أفضل النتائج التعليمية.

الفرضية الثانية تعتبر أن المشكلة تكمن في نقص المحفزات. في هذه الحالة، يتم النظر إليها على أنها مشكلة علاقة غير متوازنة في حيازة المعلومات بين المسؤول، صانع القرار وواضع السياسات من جهة، وبين مدير المدرسة والمدرسين الذين يقومون بتنفيذ هذه السياسات وتقديم الخدمات التعليمية بناء على هذه السياسات من جهة أخرى. تسمى هذه العلاقة «معضلة الموكِّل والوكيل» (principal–agent problem). المشكلة في هذه العلاقة هي أن مدير المدرسة والمدرس يملكان معلومات عن الوضع في المدرسة ومستوى الطلبة وما يريده أولياء الأمور وتوافقها مع المناهج، قد لا تصل مثل هذه المعلومات إلى المسؤول صانع السياسات في الوزارة بكل دقة وأمانة أو في التوقيت المناسب وبالطريقة السليمة، أي أن هناك عدم تماثل في المعلومات بين الوزارة والمدارس. للتغلب على هذه المشكلة يحتاج صانع السياسات (الوزارة) إلى تقديم حوافز إلى المعلمين ومديري المدارس (الوكلاء) تحفز المدارس والمدرسين لتحقيق النتائج التعليمية المطلوبة. 

البعد الثالث يتعامل مع المشكلة من ناحية الافتقار إلى المساءلة العامة، تعالج هذه المشكلة بإيجاد آلية تمنح أولياء الأمور والطلاب والمجتمع إمكانية ممارسة التأثير الفعال على الأهداف والسياسات التعليمية وعلى طريقة وقواعد تخصيص الموارد لزيادة عائدات الاستثمار في التعليم إلى أقصى مستوى ممكن.

أي أن هناك حاجة إلى إصلاح منظومة التعليم من حيث عملية التعليم والتعلم نفسها، ومن حيث تحفيز الجهات الفاعلة والمعنية، ومن حيث إعطاء الطلبة وأولياء الأمور والمجتمع الفرص للمساهمة في صياغة السياسات والمساءلة عن النتائج. وعلى العكس من ذلك، فإنه من غير المرجح أن تؤدي إصلاحات التعليم إلى مستوى الجودة المطلوبة والتنوع في المهارات والقدرات المطلوبة من رأس المال البشري إذا ركز واضعو السياسات على جانب من دون الجوانب الأخرى، فالإصلاحات الجزئية والمعزولة قد تؤدي إلى بعض التحسينات في الأداء ولكنها لن ترفع العائد على التعليم ولن تخلق رأس مال بشري مدربا ومهيأ للعمل فنيا ونفسيا وأخلاقيا. وأخيرا، فإن إصلاح التعليم الشمولي المتكامل يعالج جانبا واحدا من المشكلة وهو جانب العرض ويبقى جانب الطلب، نناقشه في مقال لاحق.

  mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *