نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

المجتمع المدني والعدالة الاجتماعية والتنمية

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ٠٤ مارس ٢٠٢٠ – 02:00

جميل أن يحتفل العالم بيوم العدالة الاجتماعية وأن يتذكر الجميع أن هناك فئات من المجتمع معوزون ويحتاجون إلى دعم وإلى اعتراف بوجودهم وحقوقهم وتقدير تطلعاتهم وآمالهم. المجتمعات ليست على القدر نفسه من الوعي بوجود مثل هذه الفئات وليس على القدر نفسه بالإحساس بضرورة وضع السياسات والخطط والبرامج للتعامل مع قضاياهم ورفع مستواهم المادي والنفسي والمعنوي. وليست على نفس القدر من الاستعداد لمعالجة قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة ورفض التفاوت الكبير في الدخل وفي التأثير.

اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية هو فرصة لإعادة النظر في السياسات وفي العلاقات وفي المفاهيم والأدوات ومدى صلاحيتها لتحقيق العدالة الاجتماعية أو السير في طريق تحقيق قدر منها يؤمن للمجتمع تماسكه وأمنه واستقراره، ويؤمن للمواطن حياة كريمة متوازنة. من الضروري أن يقوم هذا الأمن والاستقرار على أسس من الحرية والحق والعدل. وهذه قيم إنسانية وقيم إسلامية، للأسف تراجعت في الفقه الإسلامي وأخذ يركز أكثر على جانب العبادات من الدين أكثر من تركيزه على القيم والأخلاق والعلاقات بين مختلف قوى المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

من أهم القضايا التي تُكرس التفاوت في العدالة الاجتماعية هي التفاوت في الدخل والثروة، يتحول ارتفاع الدخل إلى تراكم ثروة وقوة اقتصادية تتحول إلى قوة سياسية تُستغل في مضاعفة الثروة وزيادة النفوذ السياسي. يبدو الأمر كما لو كانت دائرة مغلقة من الصعب كسرها. النتيجة زيادة تركز الثروة في أيدي قليلة تؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى وارتفاع معدلات الفقر وازدياد التوتر في المجتمع مما يهدد الاستقرار ويقوض قيم تكافؤ الفرص ويهدم أسس وقيم الديمقراطية نفسها. 

النخب المستفيدة من الوضع المادي ترى وتقر بالضرر على المجتمع من هذا التطور غير الإنساني لكنها لا تعتقد أن الدولة هي الجهة التي يجب أن تتصدى له وتعالج قضية التفاوت وتخفف من مضاره على المجتمع وترى تركه لحركة السوق. هذا الوضع هو الذي ينادي به البنك الدولي في سياساته المنفتحة على العالم عبر ترك الحبل على الغارب لليبرالية الجديدة التي تؤمن بسيطرة رأس المال على مفاصل الحياة.

هذا الموقف لا يمثل مشكلة لو أن مصالح العامة متوافقة مع مصالح النخب المستفيدة والثرية. لكن الواقع أن المصالح مختلفة وبالتالي فإن النخب المستفيدة (ومن ورائها البنك الدولي) لا ترى أن الضرائب على الدخل والثروة هي الحل لتقوية الخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي وإعادة توزيع الدخل والثروة، ولا ترى أن السياسات المتبعة هي المسؤولة عن حماية الاقتصاد وخلق فرص عمل وتقليل التفاوت في الدخل بين أفراد وفئات المجتمع، لذلك فإن بداية الحل تكمن في القناعة بأن العملية السياسية هي تنافس بين مصالح مختلفة تفرض دراسة سلوك هذه المصالح في مواقفها من العدالة الاجتماعية وكيفية معالجتها لقضاياها.

في 2017 صدرت دراسة (ما بعد بيكتي – After Piketty) تعلق وتضيف إلى كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين والذي أشرنا إليه في مقالنا السابق. ترى الدراسة أن احد اسباب وجود هذه المواقف والتفاوت في السلطة وفي الثروة هو المؤسسات التي تحكم عمل المجتمعات، وترى أن السياسة والمؤسسات السياسية والاقتصادية هي عامل مؤثر في صناعة ونمو واستدامة عدم المساواة. وتقول إن ما يحرك آلية التفاوت هو أولا ضعف صوت المواطن العادي وثانيا قدرة الأثرياء على الخروج وثالثا الولاء. وان معالجة هذا الوضع تتطلب إصلاحات سياسية تخلق مؤسسات تشاركية ترفع من مستوى صوت المواطن العادي وتقوية صوت الطبقات الفقيرة والمتوسطة وإعطائها فرصة تنظيم نفسها. أما سياسات تقليل تأثير المال على السياسة فإنها لن تنجح لأن الثروة سوف تجد طريقة لإسماع صوتها.

قلنا في المقال السابق إن بناء الطبقة الوسطى المؤثرة من خلال الحراك الاجتماعي يحتاج إلى إصلاح اقتصادي يخلق فرص عمل ويتيح لمختلف الفئات العمالية تنظيم أنفسهم وخلق مجتمع مدني حيوي واع لمصالحه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويدرك أنها مختلفة عن مصالح النخب الثرية والمتنفذة.

 فيما يتعلق بصوت المواطن فإن عدم المساواة الاقتصادية يعطي صوتا أكبر وأكثر تأثيرا سياسيا. هذا الصوت الذي يستغل لزيادة التأثير الاقتصادي ينتج عنه عدم مساواة في الصوت والتعبير والتأثير. تصحيح ذلك يكون من خلال المشاركة السياسية الفاعلة وتسهيل قدرة الناس على تنظيم أنفسهم في جمعيات أو أحزاب أو نقابات تمثل مصالحهم وتدافع عن قضاياهم. 

أما فيما يتعلق بالطبقة الثرية فإن خياراتها بالضرورة اسرع, وفي حالة وجود قانون لا يخدم مصالحهم مثل ضرائب الثروة أو الدخل فإن أمامهم فرصة الخروج، إما إخراج أموالهم من البلد وإما خروجهم وسكنهم في دول لا تفرض ضرائب، هذا في حالة لم يتمكنوا من مقاومة القوانين أو تغييرها. وبذلك فهم لا يساهمون في بناء الوطن بالقدر نفسه ولا يساهمون في تمويل الخدمات الاجتماعية والدفاعية والأمنية بالقدر نفسه الذي يساهم فيه المواطن العادي الذي لا يملك خيار الخروج. فخيار الخروج غير متاح للطبقة الفقيرة والمتوسطة بالقدر نفسه. وهذا يعني أن الولاء للثروة أخذ مكان الولاء للوطن، يتمتع الثري باختيار البلد الأكثر استعدادا لحماية ثروته من الضرائب والرسوم، كما أنه يملك القدرة على توفير مستلزماته ومشترياته من الخارج والحصول على إعفاءات ضريبية عند تصديرها إلى وطنه.

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *