نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

المرحلة الانتقالية وتحديات التحول نحو الدولة المنتجة

منذ هبوط أسعار النفط والدول الخليجية ومنها البحرين تعيش مرحلة انتقالية تسعى من خلالها التحول نحو الضرائب والإنتاج والتنمية الاقتصادية الحقيقية التي تعتمد على رأس المال البشري والاجتماعي. هذا الجهد للتحول تواجهه تحديات كبيرة بعضها هيكلي ومؤسسي وبعضها اجرائي وتنظيمي، بالإضافة الى ان هذا الوضع المعتمد على النفط خلف لنا مشاكل مالية واقتصادية واجتماعية وثقافية. الاعتماد على النفط جعل اقتصادات المنطقة تعتمد على الانفاق الحكومي ليس فقط لتمويل الخدمات التي تقدمها الدولة ولكن كذلك لتمويل السيولة في البلد لتغذية الأنشطة الاقتصادية الأخرى مثل التجارة والصناعات الخفيفة الاستهلاكية وانشطة التعمير والتشييد وسوق العقار. 

هذه السيولة السهلة في يد الدولة والمجتمع انتج سلوك انفاق غير انتاجي يضغط على المجتمع والدولة لقبول نمط استهلاكي بذخي على انه مؤشر على الرخاء والازدهار أدى الى خفض معدلات الادخار والضغط على الميزان التجاري والحساب الجاري؟ لا يقتصر الانفاق البذخي على المواطنين المقتدرين بل شمل وزارات الدولة حيث نرى آثار الاسراف في تأثيث مكاتب المسئولين وفي قاعات الاجتماعات والحفلات والمؤتمرات مقارنة بدول متقدمة اكثر منا انتاجا وتنميته. وادى ذلك الى تشوية مفهوم المال العام واختلاطه بالمال الخاص، فلم يعد المسئولون يفصلون هذا عن ذك. هذا التشويه اضر بكيفية التعامل مع المال العام واضعف ثقافة المساءلة والمحاسبة وشجع الفساد والتزلف والمحسوبية وتخاذل خطباء المساجد في الدفاع عن حرمة المال العام وقلت فاعلية المجالس المنتخبة في حمايته مما افقد المجتمع الثقة فيها.

في نفس الوقت فقدت المجتمعات الخليجية قيمة العمل واهميته واعتمدت على عمالة وافدة تفوق اعداد السكان بمرات وبلغت ما ترسله من أموال الى خارج الخليج سبعة مليارات شهريا. مع ما تمثله هذه العمالة الوافدة من تهديد هوية المجتمعات الخليجية وخصوصا الصغيرة منها. 

انتج هذا الوضع تفاقم البطالة بين الشباب في جميع دول الخليج بما يفوق 30% وابتعاد الشباب عن المهن الحرفية واليدوية التي يعتبرها المجتمع مهن دونية لا تليق بالشاب الخليجي الذي يحلم بالزواج وبناء اسرة. العمالة الوافدة خلقت سوق عمل خاص بها متدني الرواتب اخرج المواطن من المنافسة. عدم توفر وظائف مجزية للشباب في مثل هذا السوق المشوه عزز السلوك الريعي وجعل الشاب يتكل على الدولة او على الاهل بدلا من العمل في المهن الدونية ذات الرواتب المتدنية.

التحول من الوضع الحالي المعتمد على إيرادات النفط وتوزيعها وفق معايير غير واضحة وتعتمد على التقاليد والعادات الى وضع جديد يعتمد على الإنتاج والمشاركة والضرائب والرسوم قد يغير من معادلات توزيع الثروة وسوف يؤثر على مصالح متجذرة في وعي المستفيد والمجتمع لا نكاد نحس بوجودها وسوف يجعل الفئات المستفيدة تدافع عن هذه المصالح وتفضل استمرار الوضع الحالي. في نفس الوقت سوف يُبرز التغيير فئة جديدة ترى انها سوف تستفيد من التغيير وتحاول تبنيه وتنفيذه بحماس توقعا لمكاسب. أي اننا إزاء منافسة شديدة وصراع بين فئة تريد استمرار الوضع الريعي المستفيدة منه وفئة تسعى الى المستقبل وضرورة التحول نحو الدولة الإنتاجية. 

خيار التحول يتطلب تحقيق توازن بين الليبرالية الجديدة في الفكر الاقتصادية مع فكر اقتصادي يجمع بين القطاع الخاص والعام في شراكة إيجابية ولا يجبر الدولة على الابتعاد عن السوق والاكتفاء بدور تنظيمي. قامت الدولة في السبعينات بإنشاء شركات كبيرة وظفت اعداد غير قليلة من البحرينيين ومازالت تعتبر اهم القطاعات التي تساهم في الناتج المحلي. نحتاج ان تبادر الحكومة الى انشاء مثل هذه الشركات الكبيرة، فهذا سوف يشجع قيام مؤسسات صغيرة ومتوسطة تخدم هذه الشركات وتنعش السوق بشكل وتفتح فرص عمل متنوعة. الدول المتقدمة الرأسمالية لا تطبق الليبرالية الاقتصادية بحذافيرها وانما تتدخل في تنمية مناطق وقطاعات وفق حاجة المجتمع، وتعمل على منع حدوث جيوب متخلفة تكثر فيها البطالة وتضر بالأمن والاستقرار.

التحول يتطلب الانفتاح في توفير المعلومات للمجتمع ومنظماته ومؤسساته وتعزيز حرية الصحافة. يتطلب التحول تقوية مؤسسات مكافحة الفساد والمساءلة والمحاسبة وانشاء المؤسسات الناقصة مثل هيئة مستقلة لمكافحة الفساد. مثل هذه الإجراءات سوف تبث الثقة في البيئة الاستثمارية وتجعل مهمة المفسدين اكثر صعوبة.

التعامل مع هذا الوضع سوف يحتاج الى إرادة سياسية وإدارة متمكنة تدرك أهمية التغيير ومستعدة ان تقف مع مصالح المستقبل ومصالح الغالبية من المجتمع. وفي نفس الوقت تستطيع تعويض الخاسرين وادماجهم في العملية الاصلاحية، وتتمتع بنَفَس طويل وإدارة سَلِسة ومتدرجة للتغيير الذي سيستمر سنوات تتيح فيه للجميع إمكانية المواءمة مع الوضع الجديد، مع ضمان استدامة الحماس للتغيير والتشبث به مع مرور الزمن والعمل على منع الانتكاسة. 

التحدي الذي سوف يواجه هذه الإرادة السياسية هو التعقيد الكبير في الوضع الراهن بسبب تأثيرات الاعتماد على النفط الذي عود المجتمع على الاتكالية والاعتماد على الدولة، وبسبب العولمة والمنافسة الكبيرة التي يتعرض لها الاقتصاد والتنمية، وتأثير النظام الريعي على وسائل الإنتاج، وكذلك بسبب تأثر البحرين بالبيئة الإقليمية والدولية وتأثرها بالقيم والفكر الإنساني والاتفاقيات والمعاهدات الدولية ومراعاة المتطلبات البيئية بالإضافة الى ضرورة التزامها بالتقاليد والثقافة العربية والإسلامية. لهذه الأسباب وغيرها لم تتمكن الحكومة من التوفيق وموازنة المدخلات والمخرجات والتعامل مع المتغيرات في البيئة الخارجية المؤثرة. 

التحول يحتاج تغيير ثقافي وقيمي يقبل بالآخر وينبذ العنف ويقتنع بان الله للجميع، وهو القاهر فوق عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير. تحول ثقافي يبين للمجتمع بان الاختلاف مشروع ولكنه اختلاف فكري واختلاف مصالح واختلاف وجهات نظر دون تخوين ودون اقصاء وابعاد، وان السلاح الوحيد المقبول هو الكلمة التي تعبر عن مختلف وجهات النظر والحسم في الاختلاف يكون في صناديق الاقتراع وفي الحوار والمناظرات. 

التحول يتطلب تغيير اخلاقيات العمل من حيث الإحساس بالمسئولية والتفاني في العمل وان الاجتهاد هو الطريق الوحيد للترقي ورفض التملق والنفاق الذي تشجعه بعض العادات والتقاليد مثل المحسوبية والواسطة والعلاقات العائلية والاجتماعية.

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *