نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

الهوية العربية وتأثير الانقسامات المجتمعية

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ٠٩ أكتوبر ٢٠١٩ – 01:00

مقالاتي-المجتمعات التي تحقق نتائج هي مجتمعات تؤمن بالتعددية وحرية الفكر والرأي وتنافس الافكار. في العالم العربي يروج الصراع الديني بين مكونات المجتمع مما يضعف المجتمعات ويضعف الدول ويعرضها لحروب ونزاعات واختلال الهوية الوطنية والقومية. بعض هذا الضعف من صنع الانظمة بهدف السيطرة على المجتمعات. الحل في قبول الاختلاف ومراجعة التراث.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1186090

في محاضرة للدكتور علي فخرو حول الطائفية والوضع العربي المتردي بعنوان «معا ضد الطائفية» قال فيها ان الأمة العربية مرت بظروف انتهت بها إلى التشرذم والضعف وأصبحت مسرحا لصراعات دولية وإقليمية وحتى بين أنظمة الدول العربية نفسها. قد يكون من الغريب ان جميع الدول العربية تعاني من نوع من التشرذم سواء كان طائفيا أو قبليا أو مناطقيا أو دينيا. وهذا يطرح السؤال: لماذا تبرز هذه الظاهرة في الوطن العربي دون غيره؟ هذا ما حاول الدكتور علي مناقشته وبطبيعة الحال فإن النقاش لا يفضي إلى معادلة سحرية تخرج الأمة العربية من هذا المأزق. 

طرح الدكتور فخرو إشكالية الهوية على أنها عامل أساسي في هذه المعادلة. ويقول ان الهوية الجامعة الناتجة من الانتماء للوطن هي «شعور يمنح الفرد الطمأنينة الواسعة المرتبطة بالوطن»، كما انه من الطبيعي ان يتكون هذا الوطن من جماعات لهم خصوصيات مختلفة سواء كانت مذهبية أو عرقية أو قبلية أو عشائرية، ولا يوجد تناقض بين ان ينتمي الإنسان إلى الوطن الأم وفي نفس الوقت له انتماء فرعي يغني الهوية الجامعة بتعددية ايجابية. 

الطائفية لا تختلف عن القبلية في أنها لا تمثل شيئا سيئا إلا إذا أخذت منحى أفضلية وتمييز وتعصب ورفض حق الآخر في المعاملة بالمثل، وليس فقط شعورا بالانتماء إلى جهة معينة دون ان تحمل في ذاتها العصبية. قد يلاحظ اليوم ان هناك تراجعا في الشعور والانتماء القبلي إلى حد كبير. لكن في نفس الوقت هناك تراجع في الوعي الوطني والقومي، وتراجع في الانتماء العروبي لصالح القطري، وإن ذلك يبدو واضحا في تقبل البعض لفكرة التطبيع مع العدو الصهيوني.

المشكلة كما عرضها الدكتور هي عندما يأخذ الانتماء الفرعي الصدارة ويكون هو الانتماء الأساسي وتمارس من خلاله نوع من الإقصاء للآخر المختلف أو النظر إليه على انه الآخر. أي ان الخطر عندما تمارس الطائفية في اصطفافات مبنية على الانتماء الفرعي وليس على حق المواطنة. حينها تصبح الهوية الفرعية تكوينا اجتماعيا يقسم المجتمع إلى أقسام تقوم على المذاهب أو القبائل أو العشائر أو حتى الانتماءات الحزبية المتعصبة. حينها تصبح الهوية الفرعية هي الحاكمة لسلوك الفرد وهي التي تحدد مواقفه من القضايا التي تهم الدولة والمجتمع ككل. في هذه الحالة لا يمكن الحديث عن مجتمع حيوي ولا يمكن الحديث عن دولة حديثة وإنما يصبح المجتمع مكونا من فئات متناحرة أو على الأقل متوترة العلاقة وتصبح الدولة مختطفة من إحدى الجماعات ولا تمثل الجميع ولا تلتزم الحيادية.

يقول الدكتور ان الطائفية بدأت في الوطن العربي دينية وتحولت إلى سياسية. ثانيا ان أي تعصبات دينية أو قبلية أو عشائرية هي في النهاية تعصبات سياسية تعرضت لها شعوب كثيرة. لكن المشكلة العربية هي أننا مازلنا نعيش في الماضي ونجتر منه ثقافاتنا وقناعاتنا وفهمنا للدين وللتاريخ وللفقه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى غياب الدولة الديمقراطية الحديثة القانونية التي تقوم على الحريات والعدالة وكرامة الإنسان والتوزيع العادل للثروات في الوطن العربي. بل ما برز هو دولة تقوم على توزيع حصص في المناصب والنفوذ وتشجع بناء الولاءات لاستثمارها في منازعاتها مع الخصوم من الداخل والخارج.

والآن كيف الخروج من مأزق التشرذم بأشكاله المختلفة؟ كيف نجند طاقاتنا لبناء دولنا وامتنا؟ ليس فقط لأنها استحقاق قومي ولكنها كذلك حل براغماتي عملي لإشكالية التقدم والتنمية والبقاء في المنافسة الدولية التي لا تعترف بالضعيف، بل تستغله إلى ان لا يمثل لها أي مصلحة فتتركه. مستقبلنا كأمة عربية يكمن في وحدتنا، حتى وإن لم تكن وحدة سياسية كاملة ولكن وحدة عملية تجعلنا كتلة اقتصادية معتبرة وكتلة سياسية يحسب لها حساب. هذا لا يأتي بسهولة فهناك مصالح كثيرة لا تريد لمثل هذا الكيان ان يقوم، ودول غربية ترى في ذلك تهديدا لمصالحها وتعمل على عدم قيامه، لذلك يعتبر تحقيق ذلك تحديا كبيرا لا بد ان تتصدى له الشعوب والحكومات العربية المستنيرة. المقاربة لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة العادلة تتطلب مسارين، الأول مسار تعزيز وتكريس قيم الديمقراطية والآخر مسار إصلاح ديني وفكري.

التربية لها دور في خلق الوعي العربي والقومي ونشر قيم العدالة والمساواة والفكر النقدي المتزن الذي لا يسيء للأشخاص بل يحاور الأفكار والمفاهيم. كذلك للبيت دور في نبذ الطائفية وتعزيز اللحمة الوطنية فهذه فقط البداية. أما العملية الصعبة والحقيقية التي يجب أن تتم لإصلاح الوضع فإنها تقع في الجانب الديني. كيف يتحول رجال الدين من مقلدين إلى مفكرين؟ كيف يتحول الشيخ الواعظ من إنسان يكرر ما سمعه في المدارس الفقهية إلى إنسان يفكر في حاضره ويبرز معاني الدين العليا في ضوء معطيات الحاضر.

للأسف، إن الصراعات التاريخية التي شكلت تاريخنا الإسلامي مازالت هي الحاكمة في علاقاتنا اليوم. ما نعاني منه اليوم هو نتاج هذا الصراع السياسي وعلينا التعامل معه على انه صراع تاريخ ليس لنا علاقة به ويحدث في كل امة. لكن ما يعنينا اليوم هو إزالة آثاره بكل تجرد. ولن يتم ذلك الا بالمراجعة الحقيقية النقدية المجردة لما حدث والتعامل مع آثار الصراع السياسي. هناك من طرح فكرة تحويل المذاهب إلى مدارس فقهية، وطرح الدكتور فخرو هذه الفكرة لكن ما لم يجرِ العمل على إعادة كتابة التراث من فهم عصري يعتمد سقفنا المعرفي الحالي ويستفيد مما وصلت إليه علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية والعلوم اللغوية والألسنة، فإن الصراع السياسي المغلف بالصبغة الدينية سوف يستمر يرعبنا ويرعب من يتعامل معنا. 

لحسن الحظ، هناك مفكرون كثر بدأوا بالتصدي لهذا الجهد لكن لا بد ان تتبناه المؤسسات الدينية نفسها وليس فقط أفرادا منها كما هو الحال اليوم. أي ان بناء الدولة الحديثة الديمقراطية العادلة في الوطن العربي لن تقوم من دون تهيئة الأرضية لها. غير ان الإشكالية تكمن في ان إعادة كتابة التاريخ في حد ذاته يحتاج إلى قدر كبير من الحرية الفكرية والقدرة على النقد والتحليل الموضوعي. نجد أنفسنا في دائرة مغلقة من الصراع بين القدرة على المراجعة والنقد التاريخي وما يتطلبه من حرية وبين حاجة الحرية إلى دولة ديمقراطية تسمح بالحريات، ويبقى السؤال ما هو الحل؟ 

mkuwaiti@batelcoc.com.bh  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *