نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

بقلم د. محمد عيسى الكويتي

جريدة الايام

5 ديسمبر 2021

تطلعات لاعادة تعريف التنمية في ضوء المتغيرات

اعتمد الاقتصاد البحريني منذ ثلاثينات القرن الماضي على النفط بالاضافة الى التجارة والصيد وبعض الصناعات التقليدية والحرف. استغل جزء من ريع النفط في انشاء البنى التحتية وتطوير المجتمع وتنمية القدرات ووضع الاسس لمؤسسات الدولة وسن التشريعات المنظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. اعتادت الدولة والمجتمع على ايرادات النفط في الاسراع في عملية البناء بتوظيف عمالة وافدة. بدأت مرحلة التنويع الاقتصادي في السبعينات والثمانينات والدخول في شراكات مع دول الخليج بانشاء صناعات اساسية مثل الالمنيوم والبتروكيماويات والحديد والصلب وتكرير النفط الخام بالاضافة الى بناء قطاع المال. استمرت هذه الموجة من التنويع حتى التسعينات. وصلت هذه المرحلة الى مدى بدأت بعدها مرحلة جديدة تسعى الى التاسيس لاقتصاد انتاجي متنوع. غير ان وجود العمالة الوافدة الرخيصة وتفضيلها على الاستثمار في رأس المال الانتاجي أخَّر جهود التنويع الاقتصادي.

في نهاية التسعينات وبداية الالفية الثالثة بدأت مرحلة اخرى من التنمية بقيادة سمو ولي العهد توجهت فيها الدولة نحو الاستثمار في تنمية المهارات ورأس المال البشري والاجتماعي وفتح المنافسة والغاء الاحتكارات التجارية. في هذه المرحلة وضعت رؤية البحرين 2030 اعتمدت ثلاث اصلاحات رئيسية هي اصلاح التعليم واصلاح سوق العمل واصلاح الاقتصاد. لتفعيل هذه الاصلاحات تم انشاء مؤسسات ترتبط بكل من هذه الاصلاحات الثلاثة، فتم انشاء هيئة تنظيم سوق العمل وتمكين، وهيئة جودة التعليم والتدريب، ومجلس التنمية الاقتصادية تتكامل هذه المؤسسات في متابعة الاستثمارات في تنويع الاقتصاد وتنشيط حركته.

انصب تركيز المرحلة على تنويع الاقتصاد وجذب الاستثمارات الاجنبية للمساهمة في التنمية الاقتصادية، حددت الرؤية قطاعات معينة شملت الصناعة والسياحة والتكنولوجيا والقطاع المالي. ارتكزت الرؤية على ثلاث قيم هي العدالة والاستدامة والتنافسية ارتبطت بضرورة تطوير التعليم واصلاح مناهجه وطرق تدريسه وقيامه بدوره في البحث العلمي وخدمة المجتمع، كما تبعه محاولات تنمية المجتمع بابعاده المختلفة والارتقاء بالنظام السياسي والاجتماع لكي ينسجم ويتناغم مع البعد الاقتصادي. وصاحب هذه التغيرات حديث عن اصلاح الجهاز الاداري الحكومي وترشيد الانفاق. خطت البحرين خطوات في التنمية والتنويع ومازال امامنا ما يستوجب تحديث الرؤى والخطط لاستكمال المسيرة التنموية الشاملة. فكيف تعامل مجتمع الاعمال مع هذه القيم والقطاعات التي حددتها الرؤية وماهو النموذج التنموي المناسب للمرحلة المقبلة؟

تحتاج المرحلة الى تقييم الاجراءات والتحولات التي عملت عليها البحرين منذ السبعينات ونشطت في المرحلة الاخيرة بقيادة سمو ولي العهد. اي اننا بحاجة الى اعادة تعريف التنمية ليتناسب مع مرحلة ما بعد النفط ومعطياتها ومتطلبات المجتمع في ضوء المتغيرات العالمية والاقليمية. بدأ مفهوم التنمية في المجال الاقتصادي قبل ان ينتقل في الستينات من القرن العشرين الى حقل السياسة. تم تعريفه حينها بانه “فن ادارة الدولة” المرتبط بجميع مكونات المجتمع والدولة. اي انه تجسيد لفكر وارداة وتطلع ومشاركة عموم افراد المجتمع المستهدفون بعملية التنمية وصانعوها. يستند نجاح التنمية على تكريس هذا الفهم والثقافة وتوجيهها لتحقيق غايات ومصالح جميع فئات المجتمع. يُعَّرف برنامج الامم المتحدة الانمائي التنمية على انها “حركة غرضها تحسين الاحوال المعيشية للمجتمع على اساس المشاركة الايجابية…”. وهي بالتالي عملية تحول هيكلي وتغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تؤدي الى تصاعد في قدرات المجتمع المختلفة وتحسين نوعية حياته وتوسيع خياراته. فكيف سنعرف نحن التنمية في المرحلة المقبلة؟ لهذه الغاية فان قيادة سمو ولي العهد في اطلاق حوار وطني بمشاركة عموم افراد المجتمع اساسية في تحديد ملامح التنمية للمرحلة المقبلة ومساهمتهم في تحديد متطلبات المجتمع وتحسين احوالهم المعيشية، كما حدث في وضع الرؤية في 2006.

القضية الثانية التي تحتاج الى مراجعة في المرحلة المقبلة هي التنويع الاقتصادي في مفهومه الشامل وما يتطلبه من استقرار الاقتصاد الكلي وتنمية رأس المال البشري والاجتماعي بما يكفي من الزخم لبناء قاعدة انتاجية تقوم على قدرات الابتكار والريادة والتكامل مع دول الخليج. هذا يحتاج الى اولا اصلاح القطاع العام وتحديث الاطار الاداري على اسس تمكين الكفاءة الوطنية لقيادة عملية التحديث. ثانيا اصلاح القطاع الخاص بحيث تبدأ باستقلاله عن رعاية الدولة من خلال دفع ضرائب كمساهم في ايرادات الدولة وليس فقط الاعتماد على الانفاق الحكومي. دفع الضرائب من شأنه ان يربط القطاع الخاص بالمجتمع. الخطوة الثانية في الاصلاح لا بد ان تكون رفع انتاجية المواطن من خلال استثمار القطاع الخاص في صناعات ذات كثافة رأسمالية تستغني تدريجيا عن العمالة الرخيصة الوافدة او تقلل من اهميتها والاستثمار في بناء المهارات الوطنية واعدادها وخلق فرص عمل لها. على القطاع الخاص ان يدرك ان رخص الايدي العاملة كميزة نسبية اضر بالصناعة البحرينية وحد من استخدام العمالة الوطنية واخر التنويع الاقتصادي.

القضية الثالثة في هذه المرحلة هي ان نجاح التحول سيحتاج الى وضع منظومة تقييم الاداء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري ومراجعة تطورات هذه الجوانب واعادة النظر في توافقها مع حاجة الابداع والابتكار من انفتاح في هذه المجالات، ومراجعة انجازات الرؤية اعتمادا على النتائج المتحققة، والتاكد من ان القيم التي استندت عليها الرؤية قد ترسخت في المجتمع؟ فقيم الاستدامة والعدالة والتنافسية تتطلب تقييم نتائجها ومدى التفاعل بينها وبين المجتمع والحكومة والاقتصاد وتاثير كل ذلك على مستوى المعيشة وجودة الحياة وخيارات المواطن. هذه عملية تحتاج الى ورش عمل لتعريف المفاهيم بما يتناسب مع واقع المجتمع وتطلعاته المستقبلية، وتحديد الاهداف الاستراتيجية للمرحلة المقبلة وعوامل النجاح الرئيسية المفروض توفرها والمؤشرات التي ستستخدم لتقييم هذه الجوانب والابعاد. بدأت البحرين في تقييم عدد من جوانب الرؤية غير ان الواقع اليوم اختلف ويتطلب اعادة نظر في المنهجية ومخرجاتها. من اهم التغيرات التي حدثت في المنطقة الرؤية 2030 في المملكة العربية السعودية والتوجهات الجديدة في الامارات وتحولات في نفس المجتمع البحريني وبالتالي يفرض كل ذلك اعادة تقييم ومراجعة. نرى ان المنهج الذي اتبعه سمو ولي العهد في اعداد الرؤية والمشاركة المجتمعية الواسعة التي اعتمدت حينها كفيلة بان تؤدي الى مرحلة جديدة من التحديث والتنويع الاقتصادي يعتمد على منظومة قياس متعددة الابعاد يتناسب مع مفهوم التنمية الشاملة المستدامة العادلة والتنافسية.

drmekuwaiti@gmail.com  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *