نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

تطوير الديمقراطية وتقرير الرقابة المالية والإدارية؟

كعادته كل عام صدر تقرير الرقابة المالية والإدارية وبدأت حفلة الانتقادات والتساؤلات والتعجب والاستنكار على ما احتواه من مخالفات وملاحظات وشبهات فساد. وكما نعرف فان التقرير لا يشمل كل الجهات المعنية بالإنفاق او تحصيل المال العام. وبالتالي فان حجم المخالفات الفعلي قد يكون اكبر مما ورد في التقرير. ومع ذلك فان ما ورد في التقرير مثَّل نسبة لا يستهان بها من ميزانية الدولة اذا استثنينا منها الجهات غير المعنية بالرقابة. وفي الأوضاع المالية التي تمر بها البحرين وفي ظل بدأ عملية تطبيق الضريبة المضافة وما سبقتها من ضريبة انتقائية ورفع أسعار الكهرباء والبنزين فان التأثير المعنوي على المواطن كبير. السؤال الذي يطرحه المجتمع تصريحا وتلميحا هو أولا لماذا تتكرر المخالفات وثانيا من المسئول عنمعالجة التكرار؟

وجود المخالفات والتجاوزات وحتى شبهات الفساد في أي مؤسسة او مجتمع يتعامل مع مال عام امر وارد وممكن حدوثه، ولكن عندما تتكرر نفس الأخطاء وفي نفس المؤسسات وتكاد تكون من قبل نفس الأشخاص المعنيين فان المشكلة تصبح ذات طابع مختلف ولا يمكن تصنيفها على انها “ملاحظات” إدارية إجرائية او تجاوزات فردية. المشكلة حينها تصبح مشكلة مؤسسية منظومية علاجها لا يتم بتصحيح إجراءات او تقديم بعض الافراد الى النيابة (سبق وان تم ذلك ولم تجدي العملية) وانما يحتاج الى مستوى اعلى من التناول والتحليل وإعادة النظر في الكثير من العلاقات والصلاحيات والتخصيص والتوزيع.

التقرير السنوي لديوان الرقابة المالية والإدارية ينبغي ان يمثل فرصة لمتخذي القرار ولكبار المسئولين لمعالجة جذور المشكلة المؤسسية المنظومية، وقد حاولت الحكومة قبل ثلاثة أعوام مثل هذا التوجه دون جدوى. إن أي دراسة او تحليل لمعاجلة هذه المشكلة لا بد وان يصدم بمستويات اعلى من الصلاحيات تحول دون التوصل الى لب المشكلة او تطبيق التوصيات. وقد نقول بان مشكلة التجاوزات ليست حكرا على دول الخليج ولكنها سمة من سمات دول العالم الثالث بشكل عام والاقتصاديات الريعية بشكل خاص التي يضعف فيها المجتمعات وتقوى فيها سلطات الدولة الى حد يكون عنصر المساءلة الحقيقية ضعيف مقارنة بسلطات متخذي القرارات في الأجهزة التنفيذية المختلفة وعلى جميع المستويات.

هذا يعني اننا سوف نعيش مدة طويلة مع مستويات مرتفعة من هدر المال العام وضياع فرص الترشيد واحترام حرمة المال العام وتقديسه الى ان تتطور حياتنا الديمقراطية وتصل الى فهم أفضل لمعنى الديمقراطية وآلياتها وادواتها ومؤسساتها، وعدم اقتصارها على التصويت لانتخاب مجلس نواب كل اربع سنوات. كذلك نحتاج الى ان نطور مفهومنا لماهية المؤسسات الرقابية وعلاقتها الرسمية وغير الرسمية بأجهزة الدولة وسلطاتها وصلاحياتها. كذلك سنبقى في هذه الدوامة الى ان تتطور مفاهيمنا عن المال العام وتعريفة وتقنين التعامل معه. سنبقى نتلقى مثل هذه التقارير الى ان تتطور اجهزتنا الإعلامية وتتوسع مواردها ومصادرها المالية والمعلوماتية وتكون لصيقة أكثر بالمجتمع. وسنبقى نتلقى مثل هذه التقارير الى ان يمكن تحقيق مجتمع متماسك ومنظم يدعم ما تقدم من خلال مؤسساته المدنية ويساهم في تمويل أجهزة الدولة من خلال الضرائب والإنتاج في دولة منتجة.

هذه المقدمة الطويلة نوعا ما قد توحي بالتشاؤم في عدم القدرة على التخلص من تكرار المخالفات والملاحظات. نقول بان ذلك ليس تشاؤما بقدر ما هو واقع مسيرتنا في تطوير الديمقراطية. هذا لا يعني انه لا يوجد ما يمكن عمله الان في ظل الظروف التنموية الحالية. فنحن لا ننادي بترك الحبل على القارب الى ان تتكامل تجربتنا الديمقراطية، لا بد ان نحاول التعامل الجاد ضمن ما هو متاح من مؤسسات لتخفيف الهدر وترشيد الانفاق. المسئولية للبحث عن حلول ضمن الواقع الحالي يتحملها مجلس النواب بالدرجة الأولى لكن الحكومة معنية كذلك كونها الجهة التي تتعامل بشكل مباشر مع جزء كبير من المال العام والانفاق. المجتمع وان كان معني ومتأثر بنتائج التقرير فان إمكاناته التنظيمية تحد من قدرته على التأثير. 

من الإجراءات التي يمكن عملها في الظروف الحالية هو ان تقوم الحكومة (كونها المعنية اكثر) بفتح تحقيق في بعض القضايا التي وردت في التقرير وان تلتز بنشر نتائج التحقيق وان تشرك في لجان التحقيق أعضاء من السلطة التشريعية والمجتمع المدني. كذلك يمكن لمجلس النواب ان يبادر بفتح تحقيق ليس فقط في القضايا الواردة في التقرير ولكن في منظومة التعامل مع المال العام ككل ومستوى التكامل بين مؤسسات الرقابة المجتمعية والبرلمانية والحكومية.

الخلاصة هي ان العلاقة بين الديمقراطية ومدركات الفساد والشفافية والحوكمة علاقة تبينها تقارير مؤسسات الأمم المتحدة ونجد ان الدول المتقدمة ديمقراطيا وحوكميا هي الدول التي على رأس القائمة في مكافحة الفساد وفي مستوى الشفافية والحفاض على المال العام. العنصر المؤثر في ذلك هو قدرة أجهزة الاعلام وسلطة المجتمع على كشف الفساد وضبط المؤسسات المالية وتقويم الإجراءات الإدارية. هذا يطرح سؤالا حول دور القضاء في محاربة الفساد. هل القضاء سلطة تهتم فقط بالقضايا التي تحال اليها من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية ام ان القضاء هو سلطة إيجابية في محاربة الفساد قادرة على المبادرة واتخاذ قرارات في ملاحقة الفساد والتجاوزات؟ وأخيرا كيف سنتعامل مع التهرب الضريبي في ظل عدم اكتمال منظومة الأجهزة الرقابية البرلمانية والمجتمعية؟

التجاوزات او شبهات الفساد هي ليست حالات منفصلة عن المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فهي نتيجة التفاعلات بين المنظومات التي تحكم المجتمع وتحكم الاقتصاد وتحدد العلاقات المالية والسياسية ضمن الفكر الثقافي السائد. لذلك فان الاستمرار في الإصلاح السياسي والاقتصادي بخطى اسرع هو الطريق الوحيد للتغلب على حالات تكرار الملاحظات والتجاوزات وشبهات الفساد التي نراها تتكرر عاما بعد اخر. وهل عام والجميع بخير.

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *