نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. ثالوث المال والسلطة والدين وأثره في التعصب

 بقلم: د. محمد عيسى الكويتي 

مقال الأسبوع: يبين تاريخ التعصب على انه يزداد عندما تتاح له سلطة سياسية تضطهد باسمه وتبطش بالمخالفين السياسيين والمذهبين ويتفاقم عنما يسيطر على المال لتنفيذ البطش والتهميش، محاربة التعصب والإرهاب يحتاج فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية عن السلطة المالية.  

http://www.akhbar-alkhaleej.com/13592/article/27056.html

تَقدُّم الشعوب ونموها واستقرارها هو نتاج تفاعلات المجتمع مع ما توفره الطبيعة من موارد وما تجود به همم الناس من نشاط وفكر وابداع وما تهيئه الاقدار من زمن للفرد والمجتمع. استغلال هذه العوامل يحتاج إلى فكرة رؤية جامعة تتشكل ضمن المجتمع والأمة لتكوِّن كتلة متجانسة متسامحة فكريا تتحرك نحو مصير مشترك صاغته بإرادة حرة. وتنهار هذه الجماعة بوجود الانقسامات الحادة بينها. 

 منحنا التاريخ الإسلامي، في صدر الإسلام، نموذجا ناجحا بقيادة سيد البشرية ومن بعده الخلفاء الراشدون للتوافق. فماذا فعلنا به وكيف استبدلناه بنموذج يحلل القتل والدمار وينشر الرعب؟ السبب الرئيسي هو تمكن الدولة من السلطة الدينية وتوظيف الدين لصالح السلطة مضافا اليه سلطة المال التي هيمنت عليه الدولة العربية فشكلت بذلك ثالوث الاستبداد الذي دمر حضارات سابقة. 

 الحضارة اليونانية هي اول من اهتم بالحقيقة وأبدع حرية التفكير والبحث. لم تكن امام اليونان ديانة مبنية على كتب سماوية مقدسة ولا وحي ولا كهنة بسلطة سوى قصيدة هوميروس التي تشكل تقاليدهم الدينية وتلهم حماسهم. يرى لفنجستون (مؤلف كتاب النبوغ اليوناني ومعناه لنا) ان حرية الفكر اليونانية تعود إلى التحرر المطلق من قيود اللاهوت. كثير من الشعوب تعرضت لمثل هذه الهيمنة واستعباد اللاهوت ورفض الابداع الذي يتعارض مع الفكر الحر. وبعضهم خضع لاستعباد سياسي وعبودية الفرد لصالح المجموعة، وأصبح كل شيء يقاس بمصلحة الدولة والطبقة الحاكمة، الاغريق كانوا استثناءً. 

لم يتعرض احد للفيلسوف اكسنوفان (480 ق.م.) عندما سَخِر من آلهتهم على انها من صنعهم لا تملك ضرا ولا نفعا، ولم يوقفه احد عندما سخر من هوميروس ووصفه بأنه شاعر فاجر. كما ضاق هرقليطس بالتصورات الشعبية للدين وحقر المعتقدات الشعبية وأسس لنظرية الشك التي شكلت بداية التفكير في مشاكل الحياة الإنسانية المتصلة بالأخلاق والسياسة والنزعة الفردية واحترام شخصية الفرد وحمايته من تدخل الحكومة والجماعة في حياته وفرض وصايتهم عليه. ولم يتعرض احد لديمقريطس عندما فسر الوجود تفسيرا آليا ميكانيكيا مرده إلى الذرة. فكانت هذه النظرية بداية نظريات المادة في الطبيعة والكيمياء، في الحالات القليلة التي حدث فيها اضطهاد خضعت للخصومات السياسية او الخلافات الشخصية كما حدث لسقراط.

 أما الحضارة الغربية فبدأت مع الإمبراطورية الرومانية التي اعتنقت المسيحية على يد الامبراطور قسطنطين 323م. لم يكن الدين المسيحي قبل ذلك يملك قوة الدولة بل كان مستضعفا، لذلك نادى بالتسامح وعدم الإكراه، فلما اجتمعت له سلطة الدولة تنكر للتسامح. استكان العقل الواهن لحياة الامن والهدوء قرونا طويلة إلى ان دب فيه النشاط في القرن الثاني عشر، حينها بدأ الاضطهاد. يقول لفنجستون (مؤلف كتاب «معنى النبوغ الاغريقي لنا») ان التعصب والاضطهاد لا يحدث الا بتوافر امرين الأول سلطة لدى رجال الدين (لم تتحقق هذه السلطة للمسيحية الا بعد فترة من دخولها الغرب)، ثانيا عقل يتمرد على المألوف والتقاليد والمعتقدات. لم يكن ظهر هذا العقل في اوروبا بعد وانما هادَنَ الكنيسة في تلك العصور المظلمة واصبح العقل يحتضر، يعوزه الابداع وتنقصه اصالة التفكير. لم يتوقد الفكر الأوروبي الا في القرن الثاني عشر، فبدت في الأفق بوادر الاضطهاد والتعصب بالرغم من ان المسيحية كانت تنادي بالمحبة والتسامح. 

 أما في الحضارة الإسلامية فإن الإسلام قد ظهر في مجتمع لم تكن فيه دولة بل نشأت بشكل تدريجي وبوتيرة سريعة. ومع انه ليس من الممكن الجزم بأن الدعوة الإسلامية هي دعوة لإنشاء دولة، الا ان في القرآن أحكاما يتطلب تنفيذها إلى سلطة (محمد عابد الجابري في كتابه الدين والدولة وتطبيق الشريعة). اجتمعت السلطتان للخلفاء الراشدين، لكن ظروف الفترة وعمق ايمانهم وقربهم من الرسالة أسهم في تقبلهم للنقد في الحياة المدنية وأمور الدنيا، بل انهم دعوا إلى حرية الرأي مما حال دون الاستبداد الفكري فكان الاجتهاد والانفتاح. وعندما آلت الخلافة إلى الأمويين ونشوء الفرق والمذاهب انشغلوا بالصراع على السلطة وتركوا العلماء والفلاسفة وحرية الفكر طالما لم يتعرضوا للسلطة السياسية. انشغلت الفلسفة بالطب والفلك والكيمياء وهي من التطبيقات العملية التي لا تصطدم بالحكم ولا تتعرض للدين.

 اعتمد الأمويون فكرة الجبرية والقضاء والقدر لتأصيل شرعيتهم في الحكم، والعباسيون على فكرة مشيئة الله، وبذلك أصبح الخليفة السياسي هو خليفة الله في الأرض فاختلطت السلطتان. في عهد العباسيون بدأ المأمون تبني الاعتزال، وبالرغم من عقيدتهم المبنية على العقل استغل المعتزلة هذه السلطة في تكفير خصومهم ونكلوا بهم في محنة خلق القرآن. توقف العقل تدريجيا بعد نكبة المعتزلة، وتوقف الاجتهاد وبدأ عصر الانحطاط والتعصب.

 من هذا الملخص نصل إلى نتيجة مفادها ان السلطة الدينية عندما تتحد مع السلطة السياسية وتستخدم موارد الدولة المالية في اضطهاد المخالفين ينتج عن ذلك الاستبداد الثلاثي الذي يحكم القبضة على الحياة الفكرية ويولد التعصب والغلو. فالمال يستخدم لبسط نفوذ أحد السلطتين وإفساد اخلاق الامة فتصبح لا تميز بين الحق والباطل. هذه الحالة هي السائدة في معظم العالم العربي وبعض الدول الإسلامية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، تَوثَّق هذا التحالف بظهور الدولة العسكرية الديكتاتورية وزادت قوته بعد الثروة النفطية التي جعلت الدولة تجمع بين السلطة الدينية والسياسية والمالية. لذلك فإن التغلب على التعصب والغلو يتطلب أولا نظاما ديمقراطيا قادرا على تحرير المال من قبضة الدولة وتعريضه للمساءلة والمحاسبة وبناء اقتصاد انتاجي حر. ثانيا تحرير القرار الديني بجعل السلطة الدينية مستقلة عن السلطة المدنية ماليا وإداريا وتنظيميا. تحرير هذه القوى المالية والدينية سوف يؤدي تدريجيا إلى حرية الرأي والنقد واعتماد الدولة ماليا على المجتمع من خلال الضرائب التي تجبر السلطة السياسية على تحرير السلطة التشريعية وفصل السلطة التنفيذية عن نظام الحكم ليكون هو الحَكَم بين السلطات وضامن للحريات وحقوق الجميع.

 mkuwaiti@batelco.com.bh 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *