نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. دور الطبقة الوسطى في التنمية الاقتصادية 

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي 

تاريخ النشر الأربعاء ١٧ مارس ٢٠٢١

مقال الاسبوع – تلعب الطبقة الوسطى دورا محوريا في التنمية الاقتصادية وقد قام التقدم الاوروبي على جهد وتنظيم هذه الطبقة منذ العصور الوسطى. تضم الطبقة الوسطى المفكرين والادباء بالاضافة الى الاختصاصيين ورجال الاعمال وموظفي الدولة والقطاع الخاص. تحتاج الطبقة الوسطى الى قدر كبير من الحريات لتنظيم نفسها وللمساهمة في خلق النهضة والتقدم الحضاري، وهذا غير متاح في الوطن العربي.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1242130

تحدثنا في المقال السابق عن أهمية التنوع والتكامل الاقتصادي للتنمية في الدول العربية. وفي هذا المقال نتطرق إلى حجر زاوية أساسي آخر في التنمية وفي نجاح التنوع والتكامل وهو الطبقة الوسطى وما تلعبه من دور محوري في التنمية وأهمية تيسير تنميتها وتقليل معوقات الانتقال من الطبقة العاملة والمعسرة في المجتمع إلى الطبقة الوسطى والسياسات والمؤسسات المكرسة لذلك.

يمكن تعريف الطبقة الوسطى من حيث الدخل ومن حيث المكانة الاجتماعية. تم تعريفها وفق الدخل المادي بأنها الطبقة التي تستطيع أن تنفق على الكماليات نصف دخلها أو أكثر. من الناحية الاجتماعية هي طبقة الياقات البيضاء من موظفي الدولة والقطاع الخاص، والمهنيين ورجال الأعمال. الطبقة الوسطى غير منفصلة عن المجتمع وعن البيئة التي تعيش فيها، وبالتالي فهي تتأثر بهذا المحيط وتؤثر فيه.

وفق «تقرير الاسكوا (2014) «التكامل العربي سبيلا لنهضة إنسانية»، كانت الطبقة الوسطى كبيرة في مصر ودول عربية أخرى، لكنها لم تحصل على حقها في سوق العمل فتراجعت في فترة الانفتاح الاقتصادي (2000-2010) بسبب الخصخصة وسيطرة فئة قليلة على رؤوس الأموال وعلى الاقتصاد. كان حجم هذه الطبقة في الدول العربية يتراوح بين 45% و55% في فترة ما قبل 2011 وتراجعت هذه النسبة إلى 37% بعد 2011 نتيجة الضرر الذي لحق بها في كل من سوريا واليمن وليبيا. في حين يتراوح حجمها في أوروبا مثلا بين 59% و82% في 2010).

تعتبر الطبقة الوسطى أهم عنصر في المجتمع من حيث إنها المحرك الرئيسي له، وتمثل وعيا بالانتماء إلى هذه الطبقة وتشترك في مستوى دخل ومهن وقيم تجعلها فئة ديناميكية تحرك المجتمع. ان تفوق أوروبا يعود إلى كبر حجم طبقتها الوسطى ودورها الاستثماري والريادي والإنتاجي والاستهلاكي. فمثلا الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وما تلاها من تطور أوروبا وتقدمها بدأت بالطبقة الوسطى. فقد بدأت ملامح التقدم الأوروبي منذ القرن الحادي عشر (1050) حيث بدأت ثلاث مؤسسات تعزز وجود الطبقة الوسطى، وهي الاديرة التي منحت المجتمعات الصغيرة (في القرى) قدرة على التعاون وخلق مجتمع يتعلم، ثانيا الجامعات والنقابات المهنية (Guilds) التي نشرت التعليم والتدريب العملي وخلق مهارات، وثالثا تكوين التجمعات (communes) التي تعالج المشتركات في المجتمع وتعالج قضاياها بعيدا عن السلطات، وكلها بجهود من الطبقة الوسطى وليس الحكومات.

مهدت هذه البيئة لبروز طبقة وسطى قادت الحركة المعرفية والعلمية والفكرية في أوروبا بفضل أمرين: الأول ما حدث بعد الطاعون (1347 – 1351) من نقص في العمالة فارتفعت الأجور وتمكنت من الإنفاق على الكماليات وعلى الاستثمار في تعليم أبنائها، ساعدهم في ذلك انخفاض سعر الفائدة على التمويل. أدى ارتفاع الأجور إلى رفع الطلب على السلع الكمالية فتطورت المهن والحرف المرتبطة بها وزادت الحاجة إلى الابتكار وزيادة الإنتاج. الأمر الثاني انخفاض سعر الكتب (1450-1455) عند ظهور الآلة الطابعة وانتشار العلم والتعليم، وعزز من مكانة الطبقة الوسطى ظهور الفكر الديني المستنير والفلسفة الشكية والنقدية والبحث العلمي التجريبي. هذه الديناميكية خلقت طبقة وسطى قوية حيوية متحركة. ضغط هذا الحراك على الحكومات لتكون أكثر كفاءة وأكثر عرضة للمساءلة والمحاسبة. تطور مفهوم العقد الاجتماعي خصوصا في شمال غرب أوروبا فنشأ فيها الفكر الديمقراطي في جمهورية هولندا 1572 وفي أنجلترا بعد 1688 بظهور البرلمان الذي ساهم بدوره في جودة الحوكمة وحفظ الملكية الفردية وتقليل تسلط الحكومات وخفض سعر الفائدة على التمويل العام. انبثقت من هذه البيئة الحقوقية والمعرفية والفكرية الثورة الصناعية التي دفعت بالطبقة الوسطى إلى المقدمة لتتمتع بحقوق سياسية واقتصادية جعلتها صاحبة المصلحة الكبرى في تطوير الديمقراطية وتحسين المساءلة وحرية التعبير والتوزيع العادل للدخل، والدفع باتجاه إحلال سيادة القانون وتوفير التعليم العام للجميع.

ما نريد قوله هو ان تقوية وتمكين الطبقة الوسطى هما مصلحة وطنية قومية عربية ليس في الجانب التنموي فقط، ولكن كذلك في الجوانب الحقوقية والسياسية. في الجانب التنموي هي تمثل قوة شرائية كبيرة تمكنها من زيادة الطلب على السلع والخدمات وعلى الإنتاج الفكري والأدبي وتحفز الابتكار والإبداع. كما أنها تمثل طاقة للادخار والاستثمار، وبالتالي هي الفئة الأقدر على إنشاء الشركات وتحمل المخاطرة الناتجة عن الابتكار. أوجدت الدول المتقدمة، وخصوصا الاسكندنافية، منظومة من الضمان الاجتماعي حررت الطبقة الوسطى بالذات من الخوف من المخاطرة في ريادة الأعمال. فنسبة الفشل في الابتكار وريادة الأعمال كبيرة، وبالتالي وجود شبكة قوية من الحماية الاجتماعية يرفع استعداد الشباب للمخاطرة. فمثلا في مقارنة بين البرازيل وكوريا في ثمانينيات القرن العشرين تبين ان نجاح كوريا الكبير كان نتيجة وجود طبقة وسطى حيوية أكبر، لها تقاليد في الادخار والاستثمار، وأقدر على الاستهلاك. وجود الحماية الاجتماعية كذلك يتيج فرصة للفقراء للارتقاء مما يرفع مستوى الطلب والإنتاج.

تقوية وتمكين الطبقة الوسطى يعتمدان أولا على تكبير حجمها وفتح المجال لتنظيم نفسها ووعي وجودها لتلعب دورها في المشاركة السياسية الفاعلة التي تمكنها من الاهتمام بمصالحها في التشريع والرقابة والحوكمة السليمة. 

ثانيا يحتاجان إلى سياسة اقتصادية كلية تسعى إلى تحول هيكلي باتجاه قطاعات إنتاجية تحقق قيمة مضافة مرتفعة وخلق فرص عمل تناسبها، وتحفظ القيمة من مخاطر التضخم، والمحافظة على سعر فائدة مناسب. ثالثا تحتاج إلى سياسة ضريبية تصاعدية توفر التمويل لرفع الطبقة المعسرة والفقيرة إلى الطبقة الوسطى لتتسع قاعدة الطبقة الوسطى وتزداد مساهمتها الضريبية والتنموية. رابعا تحتاج إلى تدخل الدولة بوضع سياسات تضع الأسس للدولة الإنمائية من خلال سياسات صناعية وتجارية وتكنولوجية. خامسا تحتاج إلى إصلاح التعليم والبحث العلمي لرفع مساهمتها في اقتصاد المعرفة والتعلم المستمر وتطوير الرعاية الصحية الشاملة. وأخيرا تحتاج إلى سياسة فعالة للتنوع الاقتصادي والتكامل بين الدول العربية وما يتطلبه ذلك من إصلاحات فكرية وسياسية واجتماعية تقوم على مبدأ الشمولية والانصاف والمشاركة والمساءلة وتفكيك رأسمالية المحاباة، وعدم استغلال الانقسامات في الطبقة الوسطى وفي المجتمعات لتقويض نمو الطبقة الوسطى وتمكينها. نجاح ذلك يعتمد على جدية الدول في ان تنمي الوعي الجماعي بضرورة إحداث تغييرات تنمي الطبقة الوسطى والمنطقة العربية بأسرها، تتحد من خلالها المجتمعات وترفض الانقسامات الدينية والقبلية والقومية. وهذا في الوقت الحاضر صعب المنال.

 mkuwaiti@batelco.com.bh  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *