نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

سؤال من المجالس الرمضانية.. هل نحن مجتمع رشيد؟

http://media.akhbar-alkhaleej.com/source/15041/images/Untitled-13.jpg

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ٢٩ مايو ٢٠١٩ – 01:15

مقال الاسبوع- هل نحن شعب رشيد – الإنتاج والتعامل الاقتصادي والتجاري بشكل عام يحتاج إلى سلوك رشيد وإلى قيم مجتمعية تدعم هذا الإنتاج مثل الادخار وعدم التبذير والاسراف. القيم هذه نتاج الطبقات العليا والطبقة المتوسطة في المجتمع ويقتدي بها باقي الشعب. فاذا تكرست القيم الايجابية الحميدة في علية القوم انتشرت في المجتمع وتعززت الثقة وتكون رأس المال المجتمعي.

http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1168853

تنعم مجالس البحرين في كل سنة بزيارات متبادلة بين الناس وفي بعض هذه المجالس تزدهر الحوارات حول قضايا الساعة. اختصت أخبار الخليج بتغطية المجالس وما يثار فيها من قضايا، ومنها ما يتعلق بالشأن الاقتصادي، وقد برزت في هذا الشأن نقاط مهمة نتطرق إلى قضيتين منها وهما التحول في توجهات غرفة التجارة والاهتمام بالصناعة التي طرحها الأستاذ حامد الزياني، وقضية الرشد في السلوك والتصرفات التي طرحها الأستاذ أنور عبدالرحمن وهي «هل نحن شعب رشيد، أم أن رشدنا ونضجنا لم يكتملا بعد؟».

 القضيتان – التصنيع والرشد- مرتبطتان لكونهما من أسس التنمية الاقتصادية والتحول نحو الاقتصاد الإنتاجي التصديري. فالتصنيع والإنتاج والتعامل الاقتصادي والتجاري بشكل عام يحتاج إلى سلوك رشيد وإلى قيم مجتمعية تدعم هذا الإنتاج. 

الرشد الذي دار حوله النقاش شمل سلوكا شائعا وهو الإسراف بمختلف أشكاله في المأكل والإنفاق البذخي والغلو في المقتنيات والتفاخر بها، ثانيا: قضية التناحر وهدم بعضنا بعضا، ثالثا: الاقتراض من البنوك لأجل التقليد الأعمى والمظاهر. وأن هذا السلوك يشمل الخليج وليس البحرين فقط.

تم طرح عدد من وجهات النظر أولا: تلك التي تقول إن الرشد ليس فطريا بل سلوك مكتسب من خلال المجتمع. ورأي آخر يقول إن الرشد غير مرتبط بالمكانة الاجتماعية وليس له علاقة بها. ورأي ثالث يرى أن الرشد سلوك مرتبط بالنظام والمؤسسات التي تنظم المجتمع، فمثلا النظام الديمقراطي أكثر قدرة على خلق الرشد. وأن النظام الديمقراطي المنفتح يرسل رسائل غير مكتوبة إلى الشعب ليكون أكثر رشدا. سوف نناقش وجهات النظر هذه من خلال إطلالة على جانب من تاريخ الثورة الصناعية وأسباب ظهورها في بريطانيا قبل غيرها من الدول الأوروبية، وعلاقة ذلك بالسلوك الرشيد الموثوق فيه والذي يعزز الثقة في المجتمع وبناء رأس المال المجتمعي. 

قامت الثورة الصناعية في بريطانيا على ثلاثة عوامل أساسية هي التقاليد المجتمعية الأخلاقية والقيم التي تفاعلت مع الثورة التجارية في بريطانيا وقبلها هولندا، مدعومة بالمعرفة المفيدة الناتجة عن الثورة العلمية وعصر التنوير الاسكتلندي بشكل خاص والتدريب المهني العملي الذي وفر رأس المال البشري. غير أن أهم أسباب هذه الثورة الصناعية وجود البيئة المؤسسية الداعمة للنشاط الاقتصادي والتجاري والعلمي والتكنولوجي الذي شكل في مجمله وتفاعله الثورة الصناعية مستفيدا من قيم وتقاليد وعادات وأعراف نعبر عنها بمصطلح «مؤسسات»، أوجدت أرضية مناسبة لنجاحها.

ارتكزت الأرضية هذه على قضيتين الأولى توغل الأخلاقيات البروتستانتية في المجتمع البريطاني وأهمها رفض التبذير والإسراف والتزام التوفير والاقتصاد في المال، والاعتقاد أن الله ينادي الإنسان ويدعوه إلى أن يكون صالحا، وأن الثراء ليس نقيصة بل من واجب الإنسان المسيحي أن يسعى إلى الثراء. وثانيا: انتشار قيم الثقة والصدق والأمانة بين الطبقة الارستقراطية والنبلاء وانفرد بها الانجليز وعرفت بوصف (جانتل مان). انتشرت هذه القيم في طبقة التجار فقال عنها ادم سميث حينها «إن انتشار التجارة في حد ذاتها تجعل التاجر أكثر حرصا على الصدق والأمانة لكي يحافظ على سمعته ومصلحته المرتبطة بها، لأن خسارة سمعته تكلفه أكثر مما سيكسبه من الغش». كان لانتشار التجارة تداعيات أخلاقية، كما كان لزيادة النشاط الاقتصادي تأثير على التقدم الأخلاقي. هذا الالتزام الذاتي جعل الرقابة الخارجية على السلوك غير مطلوبة وتبقى الرقابة الذاتية أقوى وأصلح لضبط سلوك الإنسان والمجتمع. 

هذا السلوك النابع من الطبقة الارستقراطية والطبقة الوسطى يرسل رسالة غير مكتوبة بأنهم أشخاص موثوق بهم ومعتمد عليهم. انتهج رجال الأعمال سلوك الطبقة الارستقراطية ليرسلوا هذه الرسالة، وانتقل هذا السلوك إلى رجال الصناعة والمهندسين أثناء الثورة الصناعية، وتغلغلت في المجتمع. كتب عن هذا السلوك الفيلسوف جون لوك بالقول «إن تربية (الجنتل مان) تخلق فيه حب الفضيلة والمحافظة على السمعة وتجعله رجلا صالحا، ليس خوفا من العقاب ولكن عن قناعة بأن ذلك يحدد شخصيته وإيمان بأن الإنصاف فضيلة والغش خيانة لطبقته وأن الحقيقة هي قمة الوجود». 

أصبحت هذه المؤسسة الأخلاقية القيمية عماد التعامل التجاري وقانونا غير مكتوب فيما بعد. خلق هذا السلوك الروح المؤسسية التي مكنت الازدهار الاقتصادي، وأثرت في المجتمع الاقتصادي وشكلت سلوكياتهم. الخلاصة هي أن التقاليد الاجتماعية يمكن أن تزدهر في بيئة تخلو من كثافة الأجهزة الأمنية كما كان الحال في بريطانيا حينها. يقول أحد الاقتصاديين الفرنسيين (جيروم ادولف بلانك)، في 1824. «كيف يمكن لمدينة بحجم لندن أن تحافظ على الأمن بعدد قليل من رجال الأمن». 

عزز هذا السلوك رأس المال الاجتماعي المتمثل في الجمعيات الدينية والمهنية والحرفية والسياسية والثقافية والعلمية، بالإضافة إلى الأندية والمقاهي والجمعيات التطوعية التي تنتمي إليها وترتادها الطبقة الوسطى الكبيرة نسبيا والتي أسهمت بشكل كبير في حركات إصلاح جذري. بلغ عدد هذه الجمعيات 9672 جمعية ينتمي إليها ما يزيد على 700 ألف عضو. أنتج هذا الحراك مجتمعا حيويا قويا منظما تقوده الطبقة الوسطى بمختلف فئاتها، وتشكل شبكة من الدعم لسوق المال وسوق التأمين والمشاركة في المعرفة الحرفية والاهتمام المجتمعي بالتعليم وتشكيل أول جمعية لمدارس الأحد الوطنية في 1785. 

الخلاصة أن ما حدث من بناء رأس مال اجتماعي قام على الثقة والسلوك السوي عبر عملية بناء تكاملية بدأت من الأعلى إلى الأسفل، يعززها التفاعل من الأسفل إلى الأعلى. مَثَّل ذلك حافزا للطبقة العاملة الراغبة في الارتقاء الاجتماعي ولجميع أفراد المجتمع بتقليد هذا السلوك السوي المعتدل كجواز لقبولها. ينطبق ذلك على التحول الصناعي الذي تريده البحرين ومنطقة الخليج كما ينطبق على ترشيد السلوك في توظيف الموارد وتقييم النتائج وفي التعيينات وفي المحافظة على المال العام لتعزيز الثقة والتعاون في المجتمع والدفع بالتنمية الشاملة.

Mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *