نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. سلوكيات التباهي والاسراف .. الى اين اوصلتنا؟

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ١٩ أبريل ٢٠١٧ – 03:00

http://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1068101

تدوالت وسائل التواصل الاجتماعي في الاسبوع الماضي صورا لوليمة عشاء اقيمت على شرف احد مشايخ القبائل في احدى الدول الخليجية. تُظهر الصور ما يقارب العشرين ذبيحة وضعت على مائدة يجلس عليها اقل من عشرين رجلا. مظاهر البذخ ظاهرة على كل ما في الصورة. بذخ مغززا ومنفرا في وقت نشاهد صور الجوع والحرمان في كثير من البلدان بما فيها البلدان الخليجية نفسها. 

التعليق على الصور يظهر مدى رفض المواطنين لمثل هذه المظاهر، ولكن للاسف اصبحت عادات “الكرم” الزائد والبذخ والانفاق المبالغ فيه احد الظواهر المشينة في مجتماعتنا الخليجية والعربية، تتجلى في المناسبات والاعراس والعزاء. قد يقول البعض بان عادة الكرم متاصلة في الثقافة العربية وخصوصا البدوية، لكن تلك حقبة لها منطقها وقيودها ودوافعها واليوم حقبة مختلفة لها التزاماتها وملابساتها وظروفها. هذا لا يعني ان الاسراف كان مقبولا في مجتمع ما وغير مقبول في مجتمع اخر. فالاسراف عادة مذمومة اخلاقيا ودينيا في كل الظروف.

والسؤال لماذا تستمر هذه العادات وتتزايد مظاهر الترف والبذخ ولماذا تنتقل العادات من طبقة اجتماعية الى اخرى ويعم التقليد الاعمى لمن هم اكثر ثراء؟ كيف يؤثر المجتمع في هذه الظاهرة؟ وما تاثيرها على التنمية في الدول الخليجية خصوصا بعد انخفاض اسعار النفط، وظهور العجوزات في الميزانيات الخليجية، والحاجة المتزايدة الى رؤوس الاموال.

قبل اسابيع كتب الاقتصادي جعفر الصائغ مقالا بعنوان “ظاهرة التباهي والتفاخر والى اين تاخذنا”. اورد في حديثة تاثير المجتمع في سلوك الافراد، التباهي باقتناء السلع الفاخرة للمباهاة والمسايرة وتقليد اعمى لمن حوله. ان مجتمع يعم فيه الكثير من الجهل والاتكالية والعيش على ما ينتجه الاخرون يتصرف بهذا الاسراف والبذخ والمباهاة، فاي قيم ينقلها الى الاجيال القادمة؟ هذا السلوك من الطبقات المترفة له عواقب اجتماعية ضاغطة تعقد حياة متوسطي الحال وتدفع البعض منهم للتقليد. اصبحت عادة المباهاة والتقليد مرضا اجتماعيا يعيق التنمية ويبدد الثروة التي يمكن استخدامها في الانتاج. اي انه سلوك مناقض للتنمية ويحرم المجتمع من رأس مال كان يمكن ان يستخدم في توسيع القاعدة الانتاجية.  علينا ان ندرك ان قدرتنا الانتاجية في المستقبل تعتمد الى حد بعيد على قدرتنا على التوفير اليوم، والاسراف هو استنزاف لهذه القدرة.

عادة الاسراف هذه موجودة كذلك في المؤسسات الرسمية والحكومات. فمثلا عندما نرى صور لقيادات ورؤساء العالم يجتمعون لبحث قضايا مصيرية نجد ان المجالس والقاعات التي يستخدمونها والاثاث وجميع ما في القاعة ينم عن وعي بقيمة الاشياء وعن ادراك باهمية المضمون والنتائج التي تخرج من الاجتماع. واذا قارنا ذلك بالصور التي تصلنا من قاعات الاجتماعات والمجالس  ومجالس القيادات الخليجية والعربية نجد الفرق الشاسع في البذخ والزخرف. هذه المناظر تبعث في المواطن التذمر عندما يرى انه يحاسب على الدينار والدرهم في الوقت الذي تنفق الاموال دون حساب عل مظاهر زائلة. كذلك تؤثر في نظرة الاخرين لنا وتعطي صورة مشوهة للانسان الخليجي والثقافة العربية والاسلامية بشكل عام. 

تاريخ الثورة الصناعية في اوروبا يقدم لنا نماذج عن تفاعل القوى المؤثرة التي ادت الى قيام هذه الثورة والعوامل التي انتجتها. كثير من هذه العوام ملموسة نقلت المجتمع من اقتصاد الاقطاع الى اقتصاد السوق. لكن العوامل غير المحسوس التي تمثلت في القيم والاخلاقيات الدينية لا تقل اهمية.

قام التطور الهائل في اوربا (في بعض جوانبه) على عقيدة ثيولوجية في تعاليم الكنيسة البروتستانتية وبالذات تعاليم جون كالفن (1509-1564) تمجد الادخار وحسن استخدام المال والاعتدال في الانفاق. هذا المذهب المسيحي يؤمن (كما في بعض المذاهب الاسلامية) بالقضاء والقدر وان الله قد كتب على كل انسان مصيره، ولا يمكن للانسان ان يغير هذا المصير. لكن هذا الاعتقاد اختلف وتحور في انجلترا وهولندا ليكون الاعتقاد بامكانية النجاة من المصير والنار بالعمل الصالح، وهذه الحياة الصالحة تعني بالنسبة لهم التفاني في العمل والتمسك بالقيم الانسانية، ومن اهم هذه القيم حسن استخدام الموارد وعدم الاسراف (thrift / frugal) (ويعتبر ذلك تكليف مباشر من الله واختيار له)، وهو دليل على صلاح هذا الانسان وطاعته لما كلفه الله به، سواء كان ذلك في التجارة او في موقع المسئولية او في اي عمل اخر. هذا الاعتقاد بحسن استخدام الموارد و ربط العمل الجاد الصالح المنتج مع الصلاح الاخروي ومغفرة الرب، تمت ترجمته الى “كلما كان الانسان ناجحا في عمله كلما كان الاقرب الى الله”. 

وفق هذا المذهب فان خلاصة التكليف (calling) “ان الانسان مطالب بالاجتهاد والمثابرة في العمل والانتاج وجمع المال، وكذلك، وهو الاهم، مطالب بالتعقل في انفاق المال وحسن استخدامه، وان التوفير فضيلة، واستثمار المال في الانتاج جزء من طاعة الله”.

لا يختلف الاسلام في رسالته ونهج الخلفاء الراشدون وبعض الصحابة وآل البيت عن ذلك وممارسة هذه الاخلاق التي ترفض الاسراف والتبذير والبذخ. حاربت الرسالات السماوية والنهج الاسلامي هذه العادات والتقاليد ووضعت قواعد للكرم والانفاق، وحددت اوجه الصرف ورفضت الاسراف. ومثلت القيادات في صدر الاسلام القدوة الحسنة “لقد كان لكم في رسول الله قدوة حسنة”. لذلك صلح المجتمع بفضل قياداته وقدوتهم وحسن استخدامهم للمال واعتباره مال عام يخص المسلمين. صلح المجتمع بصلاح قدوته والتزامهم بالنزاهة والفضيلة فاستقام شبابهم وتفانا شعبهم وقويت شوكتهم ودانت لهم الارض. 

Mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *