نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

القرآن ينادي باعمار الارض لخمة الانسان وفق معايير استخلاف الانسان فيها والتي تشمل اقامة العدالة وتحقيق كرامة الانسان وهذه مسئولية الحكومات وهم مساءلون عنها.

http://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1084543

تبرز التنمية الاقتصادية بمجالاتها المختلفة بشكل أكثر وضوحا اليوم بعد أن استمر تدني أسعار النفط وتعاظم العجز في موازنات دول مجلس التعاون وتضاعف الدين العام وأصبحت قضية التنمية تأخذ شكلا أكثر إلحاحا من ذي قبل. تبحث دول المجلس عن نموذج للتنمية يوفق بين قدرتها على تنمية قدرتها الإنتاجية وتوسيع قاعدته من خلال تنويع اقتصادها وتوجيهه نحو التصدير. حددت بعض الدول عددا من القطاعات التي تريد التركيز عليها مثل التصنيع والسياحة والزراعة والخدمات المالية واللوجستية. هذا التوجه ليس جديدا، فقد بدأ الحديث عنه منذ سبعينيات القرن الماضي ومازال مستمرا، كما هو الحال مع الحاجة إلى تحسين جودة التعليم والارتقاء به لخدمة التنمية، لم يتغير الكثير منذ السبعينيات، والخطوات مازالت محدودة النتائج.

لا يوجد خلاف مجتمعي على الهدف من التنمية وضرورة خدمتها للإنسان الفرد المواطن وتطوير قدراته وتحقيق تطلعاته؛ فالجميع يقول إن الإنسان هو الغاية من التنمية وهو الوسيلة التي يتم من خلالها؛ وهو الفاعل الأساسي ورأس المال الأهم في معادلة التنمية، لكن ما لا نتفق عليه هو الأبعاد المشمولة في التنمية.. البعض يرى فصل التنمية الاقتصادية عن أبعاد التنمية الأخرى مثل التنمية الاجتماعية والسياسية والبيئية، لكن لكون الإنسان هو المحور فإن التنمية الاقتصادية بالضرورة تتطرق إلى مجالات التنمية الاجتماعية والسياسية والبيئية لكي تتكامل وتحدث التنمية الاقتصادية بما يؤدي إلى تطوير جودة الحياة بشكل عام. والتكليف الرباني بإعمار الأرض فيه من الشمولية لجميع أبعاد الحياة الإنسانية، ولا يمكن فصل الجانب السياسي والاجتماعي عن الجانب الاقتصادي؛ فإعمار الأرض مسؤولية، ونحن كمجتمعات إسلامية وقيادات مساءلون عنها بشموليتها.

نحن اليوم كمسلمين أمام فهمين للعلاقة بين الإسلام والتنمية، أحدهما يقول إن الدين يدعو إلى النمو والارتقاء والتنمية الحقيقية للإنسان بكل أبعاده، وآخر يرى أن الإسلام هو السبب في تخلف العرب والمسلمين بسبب تبنيه مواقف تمنع التغيير والتقدم والارتقاء والقبول بالوضع الراهن من باب التوكل والقناعة والرضا بالمقسوم وعدم التطلع إلى ما متع الله به غيرك. هذه النظرة لا تسندها الوقائع بشكل قاطع، فبعض الدراسات خلصت إلى أنه لا توجد علاقة بين التدين وبين التوكل والقناعة والابتعاد عن الشأن العام، وإنما هذا السلوك هو من نتائج طبيعة الحكم الشمولي ومن خضوع المؤسسة الدينية بكل توجهاتها للإرادة السياسية على مر العصور وفي معظم الدول الإسلامية.

التنمية في المفهوم القرآني لا تقف عند حد، فهي عملية مستمرة يقصد بها إعمار الأرض والتغيير المستمر نحو الأحسن والارتقاء بالحياة البشرية. خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض، وهذه الخلافة هي تحمل مسؤولية الإعمار والتطوير والارتقاء وليس للعبث واللهو وتبذير الثروات التي وهبنا الله لتكون عونا لنا في عملية الإعمار هذه. سوف نكون مساءلين عن هذه الخلافة عند خالقنا «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ» (المؤمنون 115).

لم يقتصر مفهوم التنمية في القرآن على البعد الاقتصادي، بل تعداه إلى البعد الاجتماعي والسياسي والبيئي. ففي الجانب الاجتماعي أكد القرآن في مواقع عديدة أهمية التوزيع العادل للمال وشموليته على المواطنين كافة لكي لا تظهر في المجتمع فروقات واسعة ويعيش بعض الناس حياة مترفة بينما تعاني جماعات أخرى الفقر والحرمان، فهذا نقيض للتنمية ولا يمكن تبريره بالقول إن الله وزع الأرزاق بين الناس. هناك فرق كبير بين الرزق الصادر من الكدح وبين ما يخصصه المسؤولون لفئات من الناس محاباة لهم ولقربهم. والسنة النبوية وسيرة الخلفاء خير وسيلة لتفسير هذه الخاصية الإسلامية ودحض الادعاء بتوزيع الأرزاق. ونستشهد هنا بالآية الكريمة التي تقول «مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الحشر الآية 7). إن سوء توزيع نتاج التنمية فيه ضرر كبير على المجتمع ويخلق كثيرا من التنازع.

أما على المستوى السياسي فإن الاستخلاف مكلف به عامة الناس وليست فئة معينة كما قال الله تعالى «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي قريب مجيب». الجميع مخاطب في الاستخلاف وحملهم مسؤولية اتخاذ القرار والتصرف بما يخدم الإعمار والمشاركة فيه، فقد حث الإسلام كل فرد على الاهتمام بشؤون المسلمين العامة وجعل أمرهم شورى بينهم، تطرح جميع أمورهم التنموية وغيرها على مائدة الحوار والاستماع إلى الآراء المختلفة والتوصل إلى أنسب وأفضل الحلول بشكل جماعي تشاوري. هذا المنهج القرآني في إدارة الشؤون العامة كفيل بأن يخلق المجتمع المتماسك المتجانس الذي يشكل سدا منيعا أمام أي تدخل خارجي أو تآمر بغيض على مصالح الأمة. أما طريقة تنظيم الشورى فسوف تختلف من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر.

حدثنا القرآن الكريم عن أمم سابقة أخذت بحظ وافر من التقدم المادي، وأخذت حظا مما آتاها الله من نعمه، لكنها لم تشكرها ولم تحفظها ولم تراعي فيها حدود الله وإقامة منهجه في الأرض، فكانت سببا في هلاكها، يقول تعالى: «كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين» (الأنعام، 6)، أهلكهم الله على الرغم مما كانوا يتمتعون به من رخاء مادي.

وبالتالي فإن اشتراط دوام النعمة هو ليس الإيمان فقط بل التقوى في مفهومه العام، وخصوصا الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهو اتباع المنهج القرآني الذي يعتبر الإنسان أعظم المخلوقات وكرمه على سائرها، فأي مساس بأي جانب من جوانب مكونات الإنسان هو حياد عن منهج الله في التنمية وفي توزيع نتائجها بإنصاف وعدل. أحد حكام الدولة الأموية هدد بقتل كل من يقول له اتق الله. وهذا الرفض لحرية التعبير وتصويب القرار والرأي هو من أبواب عدم التقوى المزيلة للنعم. فالقرارات المتعلقة بالإنسان ومجالات تنميته لا بد أن تخضع للتقييم والمراجعة والتصحيح الناتج عن النقد وإبراز مواطن الخلل. وتوقف هذا الطريق الإصلاحي لا يتفق مع منهج الله في التنمية.

‭}‬ بعض فقرات المقال مقتبسة من دراسة للأستاذ م. محمـد شــبعّ – جامعة الكوفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *