نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. مقترح انشاء هيئة مكافحة الفساد … خيارات ممكنة

تاريخ النشر : 18 يوليو  2011 

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

لا يخطئ المتتبع لتاريخ الثورات العالمية بان العامل المشترك في معظم هذه الثورات، من الثورة الفرنسية الى الثورات العربية، هو ان الفساد هو العامل المشترك المحرك لهذه الشعوب. فالفساد مشكلة عالمية لا تخلو بلد منه ولكن هناك تفاوت بين معاناة كل منها. ففي مؤشرات مكافحة الفساد تتصدر القائمة السويد وسويسرى وسنغافورة في انخفاظ معدل الفساد،  بينما تقبع في ذيل القائمة عدد ليس قليل من الدول العربية.

وبموجب المنظمة العربية للتنمية الإدارية فأن ثلث الدخل القومي العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ذهب ضحية الأشكال المختلفة للفساد. ويقدر البنك الدولي أن الفساد يهدر ما لا يقل عن تسعة في المئة من الناتج المحلي العالمي. 

الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد تحذر في ديباجتها من اخطار الفساد على استقرار وامن المجتمعات وانها تقوض الديمقراطية وتعرض التنمية المستدامة وسيادة القانونن للخطر، فضلا عن الحاقة الضرر بالاقتصاد والمؤسسات في المجتمع. بموجب جريدة الحياة (6 ابريل 2011) فان الدول العربية تحاول منذ عقود القضاء على الفساد في إطار البنى السياسية والاقتصادية القائمة، أو في إطار عمليات تجميل طفيفة على هذه البنى. وقلّما بدأت قيادات وحكومات عربية عملها خلال العقود الثلاثة الماضية من دون أن يكون شعار مكافحة الفساد على رأس أجندتها. غير أن المعطيات المحلية والدولية تشير إلى نتائج مخيبة في غالب الأحيان، لأن مظاهر الفساد، من رشوة وشراء ذمم واستغلال مناصب للإثراء غير المشروع أضحت أشد قسوة لتطال القوت اليومي للمواطن العادي ومصدر عيشه. 

ان مقترح انشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد يتوافق مع المادة السادسة من الاتقاقية الدولية التي تفرض على الدول الموقعة “وجود هيئة تتولى منع الفساد بوسائل مختلفة”. وقد قدمت بعض الجهات المشاركة في الحوار التوافقي الوطني ضمن مرئياتها انشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد. فهل وجود مثل هذه الهيئة كفيل بعلاج المشكلة؟ 

بموجب دراسة اعدها معهد البنك الدولي في 2004 فان هناك اربع نماذج لتشكيل مثل هذه الهيئات، اهمها النموذج متعدد الوظائف (Universal Model) والمستخدم في هونج كونج ويقوم بالوظائف الثلاث في مكافحة الفساد وهي التحري والتحقيق، والوقاية، والارشاد والتثقيف. والنموذج الثاني هو الرئاسي يقوم بالتحري والتحقيق والمستخدم في سنغافورة ويستمد قوته من سلطة الرئيس ونزاهته، والثالث نموذج برلماني محدود الوظائف يقوم بدور الوقاية مرتبط بالبرلمان ومستخدم في جنوب ويلز في استراليا، والنموذج الرابع متعدد الهيئات، مستخدم في الولايات المتحدة الامريكية يتالف من جهاز تحري مرتبط بالقضاء واخر جهاز وقائي يختص بقضايا تضارب المصالح ومرتبط بالحكومة والاثنان يعملان في تكامل. 

وبموجب هذه الدرسة فان النماذج الاربعة نجحت في دول مثل هونكونج وسنغافورة واستراليا وفشلت في دول اخرى مثل الارجنتين وكوريا الجنوبية والهند وكينيا وبوسنيا بسبب ضعف الارادة السياسية التي استخدمت الهيئة كخطوة في العلاقات العامة و جزء من تكتيك لتأخير الاصلاح الحقيقي الذي قد يضر بمصالح جهات نافذه. وبذلك اصبحت الهيئة مجرد واجهة تجعل الحكومات تبدو جادة في مكافحة الفساد امام المستثمر الخارجي.

اي ان نجاح اي من النماذج المذكورة يقترن بالنظام السياسي. ففي الدول الشمولية والاستبداد السياسي فشلت جميع المحاولات. اما في الدول التي تتمتع بالتعددية السياسية والمؤسسات القضائية والدستورية المستقلة والقوية وفي ظل سيادة القانون فهي الاكثر نجاحا. ويعود نجاحها الى خوف من تسول له نفسه ممارسة الفساد او التعدي على الاملاك العامة من المحاسبة التي تعني تبعات كارثية على مركزه الاجتماعي وعلى ثرواته ومستقبله السياسي او الاداري. ولا تُستثنى من ذلك شخصيات هامة وكبار المسؤولين، فالجميع متساوون أمام القانون والمحاكم التي لا تخضع في معظم الحالات لابتزاز وضغط من أصحاب القرار وجماعات الضغط. والدول التي نجحت في مكافحة الفساد استخدمت استراتيجيات تشكل منظومة تشريعية وقانونية واخلاقية متكاملة نذكرمنها مايلي:

  1. التزام القيادة السياسية بالاصلاح والتفاوض مع الجهات المعنية في المجتمع وفي الدولة على كيفية التشكيل.
  2. تتمتع الهيئة بشرعية دستورية تمنحها استقلالية مالية وادارية عن السلطة التنفيذية والقيادة السياسية.
  3. خضوعها لهيئات اشرافية ورقابة برلمانية وشعبية من خلال الصحافة الحرة ومنظمات المجتمع المدني النشطة والفاعلة وحق الحصول على المعلومات بقوة القانون.
  4. وجود قوانين وادوات تشريعية تلاحق المخالف وتمنح الهيئة المخالب التي تمكنها من ان تحيل المتهم الى المحاكمة ومصادرة الاموال والنشر في الصحافة.

ومع ذلك فان هذه المنظومة تستند الى ضمانات اولها سن وتنفيذ قوانين تُعزز الشفافية ورفع مستوى المساءلة لتطال كل المتعاملين مع المال العام والاملاك العامة وتحديد الصلاحيات الممنوحة لكل منهم للتصرف فيها. والضمان الثاني والاهم هو وجود مجتمع حر يستطيع ان يطالب القضاء المستقل بالتدخل وبعزل من يتوانى في تنفيذ احكامه. وهذا يتطلب ان تتوفر للمجتمع المعلومات الكافية والقدرة على متابعة وتقييم التقدم في مسار النزاهة. اما الدولة التي تتعامل مع الفساد على انه قضية تعليمية وتستمر في شرح مساوئه ومضاره، او ان تتعامل معه على انه قضية اخلاقية تحاربه من خلال منابر الخطابة والوعظ ايام الجمعة فهذا لا يقدم ولا يؤخر. لذلك يجب اعتبار الفساد قضية سياسية ويتم التعامل معها على اساس سياسي ووضع الضوابط الدستورية والقانونية للسيطرة عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *