نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

هل حان الوقت لهيئة مستقلة لمكافحة الفساد؟

في هذه الايام التي يتزايد فيها الدين العام وتكبر عجوزات الميزانيات وتتعدد الرسوم والضرائب ويتوقف فيها الدعم المالي للخدمات، فان اي جهد في رفع كفاءة الانفاق الحكومي والمحافظة على المال العام وترشيده ووقف الهدر يعتبر خطوة هامة وضرورية. على هذه الخلفية تحرك مجلس النواب ورفع تعديل في قانون ديوان الرقابة المالية والادارية (الديوان) بالزامه باحالة اي مخالفة تنطوي على جريمة جنائية الى النيابة العامة.

قررت اللجنة المالية بمجلس الشورى رفض التعديل الذي يلزم الديوان باحالة اي مخالفة تنطوي على جريمة جنائية الى النيابة العامة. تستند اللجنة في رفضها على النص الوارد في القانون والذي يجيز للديوان الاحالة الى النيابة. لكن هناك (catch 22) معضلة. المعضلة هي في العبارة التي تقول ” شرط ان يتوفر لدى الديوان ادلة جدية وظاهرة على وجود جريمة جنائية من دون اجراء تحقيق”. لذلك تؤكد اللجنة في ردها على ان التحقيق هي مهمة مستقلة ولا تندرج تحت مهام الديوان. تورد اللجنة في رفضها عدة مبررات. 

اولها ان هذا يحول الديوان من جهة رقابة وتدقيق الى جهة تحقيق. التحقيق ليس من مهام الديوان وهو غير مهيئ لذلك واعطائه هذا الواجب سوف يضر بعلاقته مع الوزارات وقد يؤدي الى عدم التعاون معه. ثانيا ترى اللجنة ان اقرار التعديل سوف يعرض الديوان الى المراقبة والنقد من المجلس النيابي وكذلك يعرض قراراته للرفض من النيابة العامة في حالة عدم اقتناعها بالادلة المقدمة، وهذا يقلل من هيبته امام الهيئات التي يدقق عليها. ثالثا ان التعديل قد يؤدي الى الاضرار باستقلالية الديوان ويؤثر على تعاون الاجهزة الحكومية معه، ليس من الواضح كيف ستتاثر هذه الاستقلالية، لكن قد تتاثر قدرته على التوفيق بين التدقيق وما يتطلبه من ثقة نسبية بينه وبين الجهات المعنية وبين متطلبات التحقيق وما يفرضه من علاقات مختلفة. 

قد تكون هناك وجاهة في ماجاء به مجلس الشورى لرفض المقترح، لكن تبقى المعضلة الاساسية لم تعالج وهي كيفية التعامل مع تزايد المخالفات وما يصاحبها من امتعاض مجتمعي ذو كلفة سياسية كبيرة، وخصوصا في وضع اصبح المواطن مجبرا على تحمل اعباء كبيرة. فحالة اللامبالاة التي كان المواطن يتصف بها قد لا تستمر مع استمرار الهدر واتساع دائرة التجاوزات وشبهات الفساد. ان احالة الامر الى النيابة لن يعالج القضية لان النيابة هي مؤسسة تعمل بعد وقوع الجريمة وليست جهة حماية ولا تجيب على السوال: هل من الممكن توفر ادلة على شبهات الفساد التي عادة ما تكون مغلفة ومخفية ومحمية حتى مع التحقيق الجنائي؟ وهل المناخ الاداري والعلاقات في الاجهزة الحكومية تسمح بمثل هذا التحقيق حتى ولو قدر له الوصول الى تلك المرحلة؟ لا يبدو انه من المنطقي اوالمعقول توقع ذلك، والامر يحتاج الى اكثر من مجر تحقيق بل يتطلب ترصد واجراءات مسبقة ويحتاج الى سلطات تختلف عن السلطات التي يمتلكها الديوان او حتى النيابة العامة، والى حوافز تختلف عن تلك الموجودة حاليا.

نمر الان بظروف استثنائية قد تؤثر على استقرارنا ما لم نبادر باصلاح  اداري للاجهزة الحكومية لكي نتمكن من تطبيق الرقابة والمساءلة المحاسبة الحقيقية على الاداء والانتاجية وتحقيق اهداف برامج الحكومة وليس فقط مكافحة الفساد. اهم عنصر في هذا الاصلاح الاداري هو اعتماد مبدأ الامتحانات للقبول للتوظيف والتعيين والترقي. اضطرت دول كثيرة لاعتماد نظام الكفاءة في الاختيار بعد ان فشلت جهود كثيرة في الاصلاح وبعد ان اتضح ان الكلفة عالية جدا وخصوصا في الحروب التي خاضتها هذه الدول. فمثلا بدأت الصين هذا النظام قبل الفين سنة (امبراطورية Qin وبعدها Han) بعد ان تعرضت الى الغزو وفشلت في صد الاعتداءات وفي ايصال المؤن الى الجنود على الجبهات بسبب ضعف الجهاز الاداري. وعملت بريطانيا على الاصلاح بعد ان تكبدت خسائر كبيرة في حرب الكريمين مع روسيا في 1854 بسبب فشل لوجستي واداري. وعمدت المانيا الى الاصلاح الاداري عام 1770 وتعزز بعد هزيمة 1806 مع نابليون وبدأت الدولة الحديثة، وعمدت امريكا الى الاصلاح وفق قانون بندلتون  1883بعد ان تعرض رئيسها الى محاولة اغتيال بسبب التذمر الناجم عن عدم العدالة في التوظيف.

اي ان الاصلاح تفرضه الشدائد ونحن في احدى هذه الشدائد. الاصلاح المطلوب يتكون من خطوتين متزامنتين، الخطوة الاولى تتعلق بانشاء هيئة عامة لمكافحة الفساد ترتبط بمجلس النواب على ان تمنح سلطات تحري وترصد وتحقيق تحال منها القضايا الى القضاء. وهناك تجارب كثيرة يمكن الاستفادة منها مثل هونج كونج بشكل خاص. الخطوة الثانية تتعلق بالجهاز الاداري الحكومي وهي طويلة الامد تبدأ بامتاحانات القبول في الجهاز الحكومي، يتولى الامتحانات ديوان الخدمة المدنية وفق معايير شفافة لا تعتمد على العائلة او الطائفة ولا يتدخل فيها احد وتتوقف الاستثناءات في التوظيف والتعيين والترقيات وجميع اشكال المحسوبيات والواسطات. ويخضع نظام الترقي فيها للمنافسة بين اكثر من مرشح يخضعون لقواعد شفافة ونزيهة وبمعايير محددة مسبقا يعلمها الجميع ويكون الحَكَم فيها ديوان الخدمة المدنية مع امكانية الاستئناف. واي تدخل فيها سيؤدي الى فشلها.

اصبحت الحاجة الى الاصلاح في الجهاز الاداري الحكومي وخصوصا في عملية التوظيف والتعيين والترقي والمساءلة والمحاسبة ووقف التجاوزرات وشبهات الفساد ضرورية ملحة ومصلحة عامة. ويجب الاسراع في علاجها. فتحقيق الكفاءة في الاداء والمحافظة على المال العام وتطوير وتنمية الاقتصاد وتنويع مصادره لا يحدث بمجرد التمني والوعود، بل يحتاج الى تعديل في المؤسسات وتعديل في السلوك وتعديل في الحوافز (الايجابية والسلبية). ان استمرار الوضع في التعيين وفي الترقي والتوظيف وفق معايير القرابة والمحسوبية هو عامل مساعد في عدم القدرة على التصدي للفساد والهدر والتجاوزات والملاحظات التي نحاول علاجها. كذلك يحتاج الامر الى تغيير في الذهنية التي تتعامل مع القطاع العام في جميع جوانبه ومستوياته وادخال عنصر المنافسة وان تقتصر التعيينات السياسية على الوزراء فما فوق. 

mkuwaiti@batelco.com.bh 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *