نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

هيئة التأمينات.. لماذا يتكرر حديث العجز الاكتواري؟

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٠ – 02:00

اتخذت هيئة التأمينات قرارا بتبني عدد من الإجراءات لمعالجة العجز الاكتواري. شمل القرار إيقاف الزيادة السنوية 3% التي تمنح للمتقاعدين نظير ارتفاع مستوى المعيشة والتضخم والغلاء الطارئ والموسمي، واحتساب الراتب التقاعدي على أساس معدل راتب آخر خمس سنوات، وتأخير التقاعد المبكر إلى 55 سنة وتعديلات أخرى.

اعتمدت هيئة التأمينات في رأيها على أصحاب الخبرة الاكتوارية (علماء في تخصصهم) وقدمت لهم معلومات ومعطيات وخرجوا بنتائج وهي التوصيات التي أعلنت. أحدثت هذه التوصيات جدلا في المجتمع كونها مست حياة شريحة كبيرة من المواطنين الضعفاء الذين يعتمدون على رواتبهم التقاعدية في تسيير أمور حياتهم ويقضون باقي عمرهم في كرامة. 

لذلك نقول إن الاعتماد في هذا القرار على الجوانب العلمية فقط (الخبير الاكتواري) غير كافٍ ولا بد من الأخذ بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة. العلم ليس محايدا أبدا وبالتالي فهو قد يتبنى موقفا يراعي فيه مصالح فئة على أخرى، ولا يستثنى من ذلك العلم الاكتواري، حيث إنه يتأثر بما يتاح له من معطيات ومعلومات، لذلك يجب ألا تبنى السياسات الاجتماعية حصرا على رأي أصحاب العلم والخبرة، بل يجب أن تتجاوزهم لتشمل سائر الدوائر المؤثرة في المجتمع مثل ممثلي الشرائح المعنية الواسعة بفرقها المختلفة اقتصادية وسياسية واجتماعية، وكذلك القطاع الخاص.

هذا يقودنا إلى القول إن ما قُدمت من توصيات استندت إلى حقائق متعلقة بالجانب العلمي المحاسبي وليس بالجوانب الاجتماعية والثقافية والإدارية والعلاقات التي أدير بها صندوق التقاعد. هيئة التأمينات مؤسسة مهمة وأساسية في حياة الناس تتعامل معهم من أول يوم عمل إلى نهاية العمر. وبالتالي فهي أولى أن تدار بما يراعي مصالح الناس بمختلف شرائحهم ومراحل عمرهم بتوازن من دون تغليب مصلحة فئة على أخرى كما حدث في 1986 في قرار تخفيض الاشتراكات والذي كان سببا في هذا العجز (عبدالنبي الشعلة، جريدة البلاد). والمصلحة تقتضي أن يدير هذه المؤسسة القادر على تحقيق استقرارها وأهدافها، وأن يحرص على أن تظهر الصورة للمجتمع على هذا النحو.

الحديث عن العجز الاكتواري بدأ منذ بداية القرن وكان التنبؤ بعجزه مبكرا وكتب فيه الكثيرون. في 2016 طرحنا (أخبار الخليج 15 يونيو 2016) وأوردنا في ذلك المقال على لسان المحاضر ما دار في ندوة أنه في عام 2008 صدر قانون التأمينات وتم بموجبه دمج الهيئتين لتوحيد المزايا ولتقليل كلفة الإدارة والتشغيل. تم بموجب هذا القانون أنشئت شركة استثمارية تهدف إلى تغيير نمط الاستثمار التقليدي وترفع من كفاءته. بالنسبة إلى الاستثمار الذي تقوم به الهيئة، فقد اتضح من رد الهيئة على سؤال المجلس النيابي حول كفاءة الاستثمار أن نسبة الأرباح متدنية. فمثلا أرباح استثمار ملياري دينار لم تتجاوز خمسين مليونا أي بنسبة 2.5%. هذا راجع إلى التركيز على الاستثمار في سندات حكومية محدودة المردود وعدم الشروع في استثمار استراتيجي يعود بفوائد استثمارية أفضل ويخدم التنمية ويقيم صناعات ويخلق فرص عمل تعود باشتراكات على الهيئة. النتيجة أن العوائد التي تحققها الهيئة لا تتجاوز 4.5% في حين أن بعض الصناديق في المنطقة تصل عائداتها إلى 18%. وبعض الجامعات في دول أخرى تحصل على عائدات تصل إلى 10% من استثماراتها. فلماذا التركيز على هذا النوع من الاستثمار؟

فيما يتعلق بالجانب الإداري يوضح المحاضر أن الكلفة الإدارية قد تضخمت منذ 2009 بنسبة 133% بدلا من انخفاضها نتيجة دمج الهيئتين وإعادة الهيكلة وتعيين فريق جديد للاستثمار. لماذا تضخمت المصاريف الإدارية على الرغم من الهيكلة ودمج الهيئتين والتخلص من حوالي 160 وظيفة؟ يقول المحاضر: إن عملية الهيكلة خفضت التكاليف الإدارية إلى ثلاثة ملايين، لكن سرعان ما ارتفعت هذه التكاليف إلى ثمانية ملايين في 2013. وفي عام 2014 ارتفعت إلى 9 ملايين. تعزيزا لهذه الأرقام أوردنا في مقال سابق أن بعض الجامعات الأمريكية التي تدير استثماراتها بتوظيف أصحاب الكفاءة تحصل على 12% عائدات. 

الآن وبعد أربع سنوات من تلك الندوة، ماذا تغير في إدارة صندوق التقاعد وكيف تغيرت شروط التعيين. من خلال الاستماع إلى المحاضرات والندوات التي أثيرت، يتضح أن المشكلة مازالت قائمة وأنها ليست في التوصيات التي اتخذت وليست في القرار، لكنها في المعطيات التي استندت إليها التوصيات. نحتاج إلى بحث آخر يجيب عن أسئلة المجتمع التي يطرحها حول كفاءة الاستثمار وكفاءة الإدارة وشفافية المعلومات، وإذا لم نعالج هذه الأسئلة فستبقى تطاردنا أشباح العجز الاكتواري حتى مع تطبيق هذه التوصيات.

الجانب الآخر من الموضوع، هو أن الضمان الاجتماعي هو التزام من الدولة نحو المجتمع، هذا الالتزام يقوم على توافق حول إدارة المال العام وعدالة توزيعه ورعاية المجتمع وتقديم الخدمات الاجتماعية وتطويرها. التراجع في هذه الالتزامات هو إخلال بهذا الالتزام، وبالتالي فإنه يستلزم في حالة اضطرارنا إليه أن نوضح للمجتمع كل تفاصيل المال العام وما نتج عنه من عجز، وفي هذه الحالة سوف يتفهم المجتمع ويقبل بالواقع المستند إلى أدلة موضوعية تبين أن إدارة المال العام هي إدارة تأخذ في الاعتبار مصالح الجميع. نتمنى من الدولة والسادة النواب أن يتعاملوا مع القضية ليس على أساس حسابات مصرفية أو تدقيق مالي، وإنما على أساس أنها قضية اجتماعية بالغة الأهمية والحساسية تتطلب دراسة اجتماعية اقتصادية لتأثير هذه التوصيات على المجتمع، ومنها نسبة الزيادة السنوية وزيادة الاشتراكات. والله ولي التوفيق.

mkuwaiti@batelco.com.bh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *