نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الحق

تاريخ النشر : الأربعاء ٢٥ أبريل ٢٠١٢

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

مسئولية رجال الدين تجاه مجتمعاتهم هي احقاق الحق والامر بالمعروف وليس تعظيم الحكام ومباركة كل مايفعلونه

http://www.akhbar-alkhaleej.com/12451/article/21270.html

تناولنا في مقال سابق علماء الدين وما يمثلونه في المجتمع ومسئوليتهم تجاه امتهم وواجبهم في إحقاق الحق والمحافظة على المال العام والحريات من منطلق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن دورهم يجب ألا يقتصر على الوعظ والإرشاد ومنع الخمور وغطاء وجه المرأة. عليهم مسئولية اجتماعية ومساهمة في بناء مجتمع مطمئن منتج ومتفاعل مع قضايا الديمقراطية والتنمية. أي بناء الإنسان كما أراد له الله حرا كريما.

على اثر المقال جرى حوار مع احد علماء الدين الأفاضل من الذين ناضلوا عندما صمت آخرون ودخل السجن وحُورب في رزقه ووظيفته. أما الآن فوصل إلى نتيجة ان شيخ الدين، لكي يقوم بعمله وواجبه تجاه أمته في إحقاق الحق والوقوف في وجه الظلم والفساد، يجب ان يكون(غنيا) مستقلا ماليا. وبالتالي فإنه يرى ان من أهم خطوات الديمقراطية في عالمنا العربي هي تحرير الجميع من سيطرة السلطات التنفيذية ولكن بدرجة أولى ان يتحرر علماء الدين من الاعتماد على السلطة التي يستوجب عليهم محاسبتها. في هذا المقام لا نقصد ان شيوخ الدين جميعهم يساعدون الاستبداد فقد ناضل كثير منهم ولكن الآن هناك صوت الحق ينادي جميع شيوخ الدين للوقوف مع الوطن والمجتمع ومع إحقاق الحق في وجه الطائفية وتمزيق الأمة.

يقول عبدالرحمن الكواكبي (في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ان المستبد يستقوي بنوعين من الرجال الاول المتمجد (الانتهازي والمتسلق) والثاني عالم الدين. بالنسبة إلى عالم الدين يقول الكواكبي ان الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، أو في أحسن الحالات اخ له. وهكذا على مرّ العصور استعان المستبدون بعلماء الدين ليزينوا سوء أعمالهم فوصموا العروبة بمعاداة الإسلام والديمقراطية بالكفر.

الإسلام جاء «محكما لقواعد الحرية السياسية»، ويرى الكواكبي ان من أهم التقصير في هذا الجانب أتى من علماء الدين في تحويل معنى الآية «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (آل عمران ).104 تحولت هذه الآية إلى فرض كفاية وليس فرض عين، وتحولت إلى سيطرة فئة من المسلمين على بعضهم، بينما المقصود، ان يؤسس لفئة تسيطر على الحكام كما اهتدت الأمم الأخرى فصلح حالهم، فخصصت منها جماعة وظيفتها (الاحتساب) مساءلة الادارة العمومية وتخلصوا من الاستبداد. ويواصل الكواكبي بالقول «أليست السيطرة على الحكام أفضل من السيطرة على الافراد؟». اما فقهاء الاستبداد فقد شرَّعوا بتقديس الحكام عن المسئولية والمساءلة، وأوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا والصبر إذا ظلموا واعتبروا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين ففسدت الامة». 

الإسلام اوجد نظاما يحمي علماء الدين من هذا العوز والحاجة وهو نظام الوقف. ولكن كثيرا من الدول عطلت هذا المصدر لحرية علماء الدين وجعلته تحت سيطرتها. قد يكون الإجراء فيه بعض الوجاهة من حيث إن الفساد دب في مجالس الأوقاف، ولكن مَثله في ذلك مَثل الكثير من الأنظمة التي يفسد مديروها، فهل يُلغى النظام ام نوجِد الأسلوب المناسب للمساءلة والمحاسبة؟ في الدول الديمقراطية مبدأ المساءلة هو اساس الحوكمة الرشيدة التي هي غاية الديمقراطية. 

على المجتمعات العربية الا تعرّض علماء الدين إلى ذل الحاجة. ففي ذلك يقول الكواكبي: لو كان المال رجلا وأراد ان ينتسب لقال «أنا الشر وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب، أما ديني فهو المال». المال بالنسبة إلى الإنسان هو التحرر من عبودية الحاجة وذل الفقر، فكيف اذا كان هذا الإنسان عالم دين في مجتمع إسلامي محافظ؟ المال عند الأخلاقيين هو ما تحفظ به الحياة الشريفة وتحصل به اللذة ويُدفع به الألم. عالم الدين الذي لا يحصل على رزقه مرفوع الرأس موفور الكرامة يكون عرضة للافساد والاسكات والتواطؤ مع الباطل وتقديم الفتاوى المعلبة والمفصلة على مقاس مَن 

يدفع.

وبالتالي فان من اهم الخطوات التي يستوجب على الدول العربية اتخاذها، وهي تصوغ نظامها السياسي، التفكير في تحرير علماء الدين من الدولة بتشكيل مجلس أعلى يعنى بالشئون الدينية غير خاضع للدولة وانما يتم انتخابه من علماء الدين أنفسهم وتخصيص ميزانية لهم من الدولة تقرها البرلمانات وتحاسَب قيادات المجلس المنتخبين على التصرف فيها ويتولى المجلس ادارة جميع شئون الحياة الدينية بعيدا عن هيمنة السلطات التنفيذية.

يقول الكواكبي إن الله خلق في الإنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد، والتربية والأخلاق تدفعانه نحو الصلاح ويدفعه الاستبداد نحو الفساد. فالاستبداد يهدم ما بنته التربية وما غرسته في الإنسان من قيَم. والتربية مراحل تبدأ بتربية الأم وتنتهي بتربية الدولة. فالدولة من خلال القوانين التي تحفظ الحقوق تقوي الآمال وتقدر الفضيلة وتحمي الحرية فلا «تقترب من الإنسان الا إذا اجرم فتعاقبه او مات فتدفنه». بذلك تصلح البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتغرس القيم المحمودة في المجتمع فيعيش المواطن راضيا مطمئناً. في مثل هذه البيئة لا يحتاج عالم الدين إلى المداهنة والمسايرة متحررا من الحاجة منزها عن الترهيب والترغيب قادرا على قول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم. اللهم احفظ علماء الدين من الحاجة، واكفهم شر الجشع إذا استغنوا، واحفظ مجتمعاتنا من الخذلان وتفرقة الأديان. آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *