د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ٢٧ أكتوبر ٢٠٢١
مقال الاسبوع: الفقر مشكلة اجتماعية لا يمكن علاجها بالاحتفال السنوي بها وانما هي نتاج خيار المجتمع وسياسات الحكومة وتحميل الفقراء مسئولية فقرهم واقناعهم بانهم السبب فيه. في دولنا الخليجية لا يجب ان يكون هناك فقر نسبي ابدا لوجود ثروة يتم توزيعها بشكل غير عادل وتبين دول الاسكندنافية كيف يمكن القضاء على الفقر.
http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1272045
في 17 اكتوبر من كل عام تحيي الامم المتحدة و دول العالم ذكرى اليوم العالمي للقضاء على الفقر واعتبر المؤسسون ان “الفقر يُشكل انتهاكا لحقوق الإنسان”. في خطابها هذا العام تقول الامم المتحدة “يتسم العالم بمستوى لم يسبق له مثيل من التنمية الاقتصادية والوسائل التكنولوجية والموارد المالية، ومع ذالك لا يزل الملايين يعيشون في فقر مدقع ويمثلون عارا أخلاقيا”. الفقر ليس مسألة اقتصادية فحسب، بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد تشمل نقص الدخل والقدرات الأساسية للعيش بكرامة. يعاني الفقراء (وخصوصا في الدول الغنية بالموارد) من أشكال الحرمان تحد تمتعهم بحقوقهم وتديم فقرهم، وتعرضهم الى ظروف العمل الخطرة، وغياب الإسكان المأمون في دول تكثر فيها مظاهر الثراء الفاحش، ونقص الطعام المغذي في دول لا تعرف كيف تتخلص من فضلات موائدها، ووجود تفاوت في إتاحة الوصول إلى العدالة وتكافؤ الفرص.
القضاء على الفقر لا يتم تلقائيا بل يتطلب عزيمة وارداة سياسية ومجتمعية. بالنسبة لنا في دول الخليج نحتاج الى اظهار نفس العزيمة والارادة التي اظهرناها في مواجهة جائحة كورونا وتسخير الموارد لها ووضع السياسات الصارمة في محاربتها وجعلها اولوية وطنية. بهذه الروح والعزيمة يمكن التغلب على الفقر النسبي والحرمان الذي يرافقه. يمكن لنا الاستفادة من تجارب الدول الاسكندنافية مثلا. هذه الدول وبالذات النرويج، واجهت الفقر كما واجهت الغزو النازي ومحاولة تحويل المجتمع الى معسكر نازي. رفض المجتمع الاجراءات النازية وقاومها ببسالة واصرار قدم فيها تضحيات كبيرة. هذه التجربة جعلته يؤمن بقدرته على القضاء على الفقر بنفس العزيمة والاصرار. وكذلك نحن اذا اظهرنا نفس العزيمة والاصرار التي شهدناها في مواجهة جائحة الكورونا.
تبدأ معركة القضاء على الفقر بادراك اضراره الانسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والايمان بان التخلص منه ممكنا اذا آمنت الامة ان الفقر ظلم للفرد واسرته وهدر لموارد منتجة ومبدعة يمكن ان تساهم في التقدم والرخاء بالاضافة الى ان وجوده سمة من سمات التخلف. اولى خطوات المواجهة الاجابة على السؤال ماذا نعني بالفقر؟ وماهي اسبابه ونتائجه على الفرد واسرته والمجتمع وكيف نعالج تاثيره؟ كمثال للدول التي نجحت نسبيا في القضاء على الفقر وجعلته هدفا قوميا هي الدول الاسكندنافية (الدنمارك والسويد والنرويج وايس لند وفنلند) ادركت هذه الدول ان مواجهة الفقر يتطلب مواجهة متعددة الجوانب تواجه اسبابه المختلفلة.
من اهم اسباب الفقر عدم تكافؤ فرص التعليم حيث يحصل الاغنياء على فرص افضل بكثير، مما يكرس عدم المساواة في المجتمع. التعليم المجاني العام عالي الجودة الذي تقدمه هذه الدول عالج هذه القضية ولم يترك مجالا للتعليم الخاص رافضين عنصر الربحية في التعليم (النرويج بشكل خاص)، معتبرين ان رواج التعليم الخاص يكرس الفوارق الاجتماعية ويقسيم المجتمع الى طبقة فقيرة واخرى غنية تتوارث مكانتها وامتيازاتها وتقلل فرص الارتقاء الاجتماعي لابناء الطبقة الفقيرة. اليتم وفقدان المعيل هو سبب اخر يحتاج الى معالجة مادية ونفسية ورعاية عائلية بديلة. السياسة الاقتصادية او النمط الاقتصادي الذي يعتمد على العمالة الرخيصة غير الماهرة هو احد اهم اسباب تفشي الفقر والبطالة في المجتمعات ويضغط على ميزانيات الرعاية الاجتماعية. معالجة ذلك يحتاج الى الارتقاء بالصناعات من خلال الاستثمار الرأسمالي الذي يرفع الانتاجية ويخلق فرص عمل عالية المهارة تناسب خريجي الجامعات والدراسات العليا والمهارات الفنية العالية مع توفير تدريب اثناء فترات التعطل.
تصدت الدول الاسكندنافية للقضاء على الفقر منذ النصف الاول من القرن العشرين وحققت مستوى معيشة عالي وفي نفس الوقت مستوى منخفض من عدم المساواة استحوذت على اهتمام العالم واعتبرها المختصون نموذج يحتذى للمساواة في الفرص الاقتصادية في وقت اصبحت قضية الفجوة بين الفقراء والاغنياء قضية سياسية ملتهبة في الدول المتقدمة وحول العالم المتحضر. وضعت هذه الدول نظاما اقتصاديا (يمزج الرأسمالية والاشتراكية) مصمم للقضاء على الفقر يقوم على ثلاث مبادئ، اولا العدالة في التعامل مع المواطنين ككل، ثانيا شمولية الخدمات، بحيث تشمل الخدمات المدعومة الجميع بما فيها توفير الحضانة ومساعدة الامهات العاملات ورعاية المسنين بالاضافة الى الخدمات الصحية المتطورة والتعليم المجاني الى مستوى الجامعة والتدريب النوعي، والضمان الاجتماعي الذي يمثل شبكة حماية اجتماعية متطورة، ونظام تقاعدي مجزي لكل المتقاعدين. وتتحمل الدولة مسئولية خلق فرص عمل للمواطنين وتاهيلهم لها وحمايتهم من البطالة ادراكا منها بان الشاب العاطل عرضة للاحباط وفقدان احترام النفس حتى وان كان لديه ما يعيش به، فطول مدة البطالة قد تجعل الشاب ينقم على المجتمع ويكون عرضة للانحراف. ثالثا التكاتف المجتمعي في المساهمة في الضرائب وفي الاعمال التطوعية وانشاء التعاونيات المختلفة في ارجاء البلاد. خلق هذا النظام مجتمع متماسك متعاون لا يشعر دافع الضرائب بانه يدفع ولا يستفيد، وفي نفس الوقت يضمن النظام مستوى معيشي محترم دون وصم احد بالفقر كون الدعم والخدمات المتميزة تعم الجميع.
يقوم هذا النظام الاقتصادي على قيمتي الحرية والمساواة ويرتكز عليهما البناء الاجتماعي. كما يعتمد النظام الاقتصادي على رأسمالية السوق الحر وخدمات اجتماعية عالية المستوى يتمتع بها الجميع. هذه المساواة تجعل امكانية الارتقاء الاجتماعي للفقراء ممكنة، والحرية كقيمة مجتمعية تحفز على الابتكار والريادة والاستعداد لاخذ المخاطرة وتجربة فرص تجارية مختلفة. تمول هذه الخدمات بنظام ضريبي يشمل ضريبة دخل عالية تصل الى 50% من الناتج المحلي الاجمالي، وضريبة ثروة تصل الى 1.5%.
خلق هذا النظام عقلية تشاركية تثق في الاخرين وفي برامج حكومية تخدم الجميع وتنفذ بمسئولية ومساءلة. النتيجة ان المجتمع يدفع ضرائب مرتفعة عن رضى وقناعة. فالدعم والخدمات المتميزة تصل الجميع ويستفيد منها الغني والفقير بحيث يضيق المجال للتعليم الخاص والطب الخاص ويكاد ان ينعدم، دون الحاجة للتاكد من احقية الاستفادة من الخدمات. ادى ذلك الى ارتفاع مستوى الثقة بين المجتمع ومؤسسات الدولة تستند على تاريخ طويل من العمل معا للوصول الى توافقات لمواجهة التحديات الاجتماعية في دولة حديثة ديمقراطية.