نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

1 سبتمر 2023

لا نخاف على الاسلام: الاديان لها نصوص مؤسسة وهذه النصوص يتعامل معها الانسان ويفهم منها ما يسمح له عصره وبيئته ومعارفه ويتغير الفهم مع تطور المعارف والازمان. لكن هناك من يرى ان فهم معين واحد هو الصح وما اختلف عنه فهو باطل. وهذا مصدر الكثير من النزاعات والخلافات والصراعات بين الاديان. متى نقتنع بان الفهم يتاثر بعوامل طبيعة بشرية ومنها الصراعات السياسية التي عادة تحدث بين الناس وتنعكس على الاديان.

لا نخا ف على الاسلام

تنتشر اقوال في وسائل التواصل وفي فيديوات ومقالات ما يفهم منها بان ما استقر من الاقوال وما تناقلته الاجيال من تراث وتفاسير واقوال اصبح دينا وعلينا ان نؤمن به سواء كان صحيحا ام مخالفا للقرآن الكريم الذي هو مصدر الدين الاسلامي الذي لا يتغير وان تغيرت واختلفت التفاسير والاجتهادات حوله، فانها تبقى اعمال بشري. كذلك يفهم من هذه الاقوال المنتشرة بان على المسلمين ان ينبروا لتبرير ما يبدوا من تناقض بين ما ورد في هذا التراث الانساني من احاديث منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم واقوال تختلف حولها الاراء وبين النصوص الدينية المؤسسة، وان نلوي عنق تفاسير الايات الكريمة وفهمنا لها لكي تستقيم مع كل الاحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم والاقوال والموروثات التي وردت واصبحت “الدين”. في حين ان هناك خلافا كبيرا بين العلماء حول صحة كثير من الاحاديث ويعتبرونها ضنية الثبوت وضنية الدلالة، ولا يدعون العصمة من الخطأ وسوء الفهم او تغير الافهام وفق السياقات التاريخية.

النتيجة لهذا التوجه ان كثيرا مما اُدخل على الاديان خلق عداوات كثيرة وصراعات بين المذاهب والفرق، مازلت الامم تعيشها الى اليوم. مثل العنف ضد المسلمين في الهند وماينمار والعنف بين المسلمين والمسيحيين في نيجيريا، وكذلك بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت قبل سنوات في يوغسلافيا، وصراع بين فئات من الهندوسيين في الهند. لحسن الحظ ان معظم المتدينين مسالمون ومتسامحون وقابلون بالفوارق والاختلافات في الافهام، ويفضلون التعايش السلمي والموقف الاسلامي لكم دينكم ولي دين.

للاسف فان ضيق الافق ورفض الاختلاف والتمسك بفهم محدد واعتباره هو “الدين الحق”، واي نقد او رأي مختلف على انه تشكيك في “الدين”، قاد ذلك الى نفور كثير من الشباب عن الاديان والى الالحاد والعياذ بالله. لضيق الافق هذا تاريخ طويل في اوروبا المسيحية وغيرها من الامم. احدث التنازع والصراع الفرقة وخلق سلوك عدواني لدى جماعات مما شوه صورة الاديان واضعف الامم، ومنها الامة الاسلامية والعربية. النتيجة للاسف ليس مزيدا من القناعة والفهم للاديان بل الى نوع من الخوف والنفاق والارهاب الفكري الذي اما ان يمنع الحوار والانفتاح والتطوير والارتقاء بالحياة الفكرية والابداع، او يقود الى عدم المبالاة والرفض والابتعاد عن الاديان.

ادراكا لذلك هناك دعوات كثيرة اليوم وتيارات تنويرية متعددة جميعها تدعو الى الاصلاح الفكري واحترام عقل الانسان الذي كرمه الله وامره بالتعقل والتدبر والفهم كفرد واعتبار جميع الاجتهادات على انها اعمال بشرية تمت في ظروف معينة ومستوى معرفي محدد، تحتاج اليوم الى اعادة النظر لتناسب سياق مختلف وظروف مغايرة تفرض فهم اخر. فلماذا يُعتبر ذلك تشكيك في “الدين”، لماذا لا يعتبر فُرص لتعميق فهم الدين وتوسيع المدارك للاستفادة من الامكانات التي تتيحها المعارف الانسانية.

بالنسبة لنا كمسلمين ان اصلاح الدين يعني ازالت ما علق به من شوائب جراء الوضع الذي تعرض لها التراث الفكري، بعضها بحسن نية كاخطاء بشرية، واخرى بسبب النزاعات السياسية والمصالح، او بسبب الاجتهادات التي تاثرت بظروف الوقت والزمن والسلطة السياسية. وبما ان الدين صالح لكل زمان ومكان، فهذا يعني انه قابل للفهم ضمن السياق الزمني والمكاني. الذين اجتهدوا لم يدعي احد منهم العصمة وامتلاك الحقيقة بل انهم قالوأ (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). لكن اصحاب المصالح الذين اتوا بعدهم جعلوا من اقوالهم “دين” وفهم جامد للدين و”ثوابت الدين”، واخذوا يكررونه ويعيدونه الى ان استقر في الاذهان ليخدم هذه الفئة او تلك.

الصراع الحاصل بين المدارس والمذاهب وما يخلقه من حقد وكراهية هو نتاج هذا الارث. ويقال بان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه منع رواية الاحاديث، وان الرسول صلى الله عليه وسلم منع كتابة الحديث، وهناك اقوال اخرى تقول عكس ذلك. اليوم التيار التنويري يرى بان تُعرض الاحاديث على القرأن ويُعمل بما يتفق معه وما تحتويه من قيم واخلاق وحسن معاملة وهي كثيرة.

واخيرا مالم تملك الامة الجرأة لتحرير الافهام الدينية من هذه الشوائب وتعود الى الاصل وهو القرآن الكريم والسنة العملية التي تواترت عن الرسول والاحاديث التي تتفق مع نص وروح وسماحة القرآن الكريم واحترامه للنفس البشرية والعقل الانساني والدعوة الى التفكر، فان الاختلاف الاسلامي بين المدارس سيستمر، وضعف المسلمين والعرب والامة سيتواصل. مهمتنا كمسلمين ومثقفين ومهتمين ان نرفع صوت ينادي بتنقية التراث كما فعل الامير محمد بن سلمان، وكما قال الرئيس المصري السيسي لشيخ الازهر “تعبتنا ياشيخ”. لانه يرفض اقتراح السيسي بتنقية التراث وتحرير الدين مما أُدخل عليه بالرغم من ارتفاع اصوات من داخل الازهر تنادي بالاصلاح. الاجتهاد وفق الزمن الذي نحن فيه ليست بدعة بل كانت سيرة الخلفاء والفقهاء، انتجت تعددية فقهية وتعددية عقائدية وثقافية. اجتهد الخلفاء في اعادة فهم ايات ونصوص صريحة ولم يروا في ذلك مخالفة للدين.

اخيرا فان الاصرار على فهم الماضي للاديان ادى في كثير من الحالات الى الابتعاد عن الدين والمفكرين ينادون بالاصلاح وتنقية التراث، والامة في صراع خصوصا اذا تم توظيف هذا الفهم او ذاك توظيفا سياسيا. يقول الاستاذ محمد الرميحي في مقاله: القطبة الخفية في الثقافة العربية، “ان الباس السياسة بالدين يقود الى طريق مسدود في التنمية المعاصرة ومعظم المعارك الفكرية السياسية”. المطلوب اليوم امتلاك الشجاعة لاصلاح حقيقي وخلق بيئة صالحة لتشجيع التفكر ومحاولة الفهم بناء على ادلة من النصوص المؤسسة. ورفض تحويل الاديان الى ايديولوجيات تتقاتل باسم “الدين” وكلها تدعي الدفاع عن “الدين”.

drmekuwiti@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *