التنمية في التجربة الكورية مقارنة بدول مجلس التعاون
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ١٠ يوليو ٢٠١٩ – 01:00
مقال الاسبوع- المشكلة التي يعاني منها مجلس التعاون فهي قضية التناقض بين مقتضيات الدولة الريعية ومتطلبات التنمية، استمرار الدولة الريعية يقوم على سلوك في توزيع الثروة يتعارض مع ما يتطلبه التنمية من سلوك الجد والاجتهاد والابداع والابتكار وهل هذه القيم تتعارض مع مقتضيات الدولة الريعية. اصبح لدى دول المجلس علم بما ينبغي عليها عمله من اصلاح ولكن المشكلة وجود الارادة في تنفيذ ما اصبح معلوما كطريق للتقدم.
http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1174313
أصبح التنويع الاقتصادي قضية استراتيجية لدول مجلس التعاون وقد نوقش ذلك في أدبيات متعددة؛ لذلك هناك استفادة من استعراض بعض ما كتب حول تجارب الدول الأخرى ومنها التجربة الكورية مقارنة بدول مجلس التعاون.
تمكنت دول مجلس التعاون من تحقيق تنمية سريعة وتقدم كمي كبير وإقامة بنى تحتية حديثة، معتمدين على نموذج يتخذ من إيرادات النفط رأس مال للتمويل واستيراد العمالة الأجنبية، بالإضافة إلى ذلك حققت اقتصاديات دول المنطقة أداء جيدا في قطاع النفط وفي الصناعات المرتبطة بالنفط وذات الكثافة الرأسمالية من خلال شركات كبيرة مملوكة للحكومات. وفي وقت لاحق تم إنشاء مدن متخصصة مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية كسياسة لتحقيق التنوع الاقتصادي على مستوى دول المجلس.
وصل هذا النموذج الخليجي مداه كآلية لتحقيق نمو مستدام، وواجهت الاقتصاديات المحلية تحديات تشمل زيادة أعداد الشباب، وارتفاع مستويات البطالة، وتشبع القطاع العام من استيعاب الخريجين، مع قطاع خاص مقصور التطور. الحل الشمولي لهذه التحديات يكمن في خلق قطاع خاص حيوي قادر على توفير وظائف للمواطنين ويحفزهم للمنافسة على الوظائف والمكاسب والمكافآت.
هذا النموذج الحالي المعتمد على منظومة ريعية لا يمكنه أن يكون طريقة مجدية في التنمية الاقتصادية للمنطقة، بالإضافة إلى ذلك فإن الاقتصاد السياسي في المنطقة يضيف إشكالية تتلخص في أن العلاقة بين الدولة والمجتمع قائمة على عقد اجتماعي يقوم على تفاهم متبادل قوامه الولاء مقابل خدمات وتوزيع ريع النفط والغاز على المواطنين في صيغة دعم سلع وتوظيف في الحكومة وخدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي. هذا العقد ومقتضيات الاستقرار والسلم الأهلي يحد من قدرة الحكومات في التخلي عن النظام الريعي بالرغم من أن تحقيق إتمام عملية التنويع الاقتصادي تتطلب ذلك.
مثلت هذه الإشكالية عقبة في طريق النمو المستدام من الصعب حلها. أي أن استمرار النظام الريعي مطلوب للمحافظة على الاستقرار لكنه في نفس الوقت عائق يعطل النمو المستدام ويخلق مجتمعا اتكاليا لا يربط بين الجهد والعمل وبين الكسب والترقي الاجتماعي. بل العكس حيث إن الكسب والترقي الاجتماعي يتحققان بطرق ليس لها علاقة بالإنتاج والاجتهاد.
مقارنة بنموذج دول المجلس فإن التجربة الكورية خطت طريقا مختلفا. كانت كوريا في الخمسينيات من القرن الماضي دولة محطمة نتيجة الحرب ومن دون موارد طبيعية تذكر. هذا جعلها تصر على تحقيق أفضل ما يمكن بمواردها المحدودة. دخلت كوريا عالم التصنيع من الصفر بخطوات محسوبة اعتمدت على التعلم بالممارسة لبناء قدرات وطنية. وضعت كوريا ثقلها في بناء رأس مال بشري عن طريق التعليم، لتجعل الناس قوة منتجة وذات كفاءة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني وتحقيق رخائها وتقدمها.
اتبعت كوريا سياسات عدة لبناء القدرات هذه. أولا: كان التركيز على البحث العلمي والتطوير ومشاركة القطاع الخاص في نتائجه، وكذلك دعم البحث والتطوير في القطاع الخاص وتحفيزه من خلال إعفاءات ضريبية وغيرها، بالإضافة إلى المشاركة البحثية بين القطاع الخاص والعام في المشاريع الكبيرة والتي تحمل درجة عالية من المخاطرة. هذا يعني أن كوريا أدركت مبكرا أهمية القطاع الخاص في النمو الاقتصادي وأهمية البحث العلمي والتطوير في بناء القدرات.
قد يكون من أهم النقاط في تجربة كوريا، فيما يتعلق بالتنويع الاقتصادي، هي كيف استطاعت كوريا أن تخلق تنميتها في تزامن مع عدد من الأزمات. مرت كوريا بسلسلة من التحديات. أولا: الحماية الغربية في الثمانينيات من القرن الماضي لمنع منافسة منتجاتها في الأسواق الأوروبية، وعانت من شدة المنافسة من دول شرقية ذات مستويات متدنية في الرواتب. تعاملت كوريا مع هذا الوضع بزيادة الإنفاق على البحث والتطوير والارتقاء بتكنولوجيتها وبصناعاتها عن المنافسة الشرقية، وبذلك حققت مستوى عاليا من التنافسية في الأسواق العالمية.
في نهاية التسعينيات من القرن الماضي تعرض الاقتصاد الكوري لأزمة مالية شديدة، اتجهت على أثرها نحو تشجيع الصناعات الثقافية معتمدة على التكنولوجيا الثقافية، فتمددت على أثرها الصناعات الثقافية مثل الأفلام الكورية؛ أي أن الأزمات كانت محفزا للابتكار بسبب توفيقها في ثلاث سياسات هي توقيت مناسب للتحول، وتعزيز السياسات الإطارية المتبعة في البحث العلمي والابتكار، ثالثا: الالتزام بالتنفيذ والإصرار عليه. لذلك، تمثل التجربة الكورية فرصة لدول مجلس التعاون للاستفادة من الأزمات والخروج من تناقضات تنويع الاقتصاد والدولة الريعية.
تقدم التجربة الكورية ثلاث إمكانيات للتعامل مع تحدياتنا. اولا: أن توضع سياسات واستراتيجيات للتنوع الاقتصادي ذات نظرة طويلة المدى آخذين بعين الاعتبار أن هدف النمو المستدام يشمل التنافسية العالمية بشكل أو بآخر. وكذلك لا بد أن تضع في اعتبارها كذلك علاقتها مع الدول العربية والمجاورة وإمكانية الاستفادة من السوق الذي تمثله. هذا يتطلب أن تنسق القيادة الاقتصادية كل سياساتها للتنمية الاقتصادية مع النمو المستدام ومع التنافسية العالمية ومع السياسة الخارجية والسياسة الداخلية للدولة وأن توجه إلى خدمة التنمية.
ثانيا: أن هناك حاجة إلى إعادة النظر في فعالية سياسات التنويع فيما يتعلق بمواجهة التحديات مثل ضعف القطاع الخاص وتوطين الوظائف. وأن تتجه السياسة الجديدة نحو معالجة تناقضات التنويع الاقتصادي والنظام الريعي ووضع خطاب جديد يحفز ويشجع المجتمعات الخليجية على المشاركة في الاستعداد لما بعد النفط. وهذا يعني إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع والدولة يكون قائما على انفتاح اجتماعي وسياسي واقتصادي وإزالة الحواجز المصطنعة بين طبقات المجتمع التقليدية التي تقسم المجتمعات وفق العائلة والقبيلة والطائفة والمذهب. وأن يتحدد دور الدولة والمجتمع في هذا التحول.
ثالثا: من المهم تقليص الفجوة بين أهداف السياسات وبين نتائج التنفيذ والأداء من خلال رفع مستويات الأداء التنفيذي ومستويات المساءلة. لا يوجد شك في أن المنطقة تواجه تحديات جمة في طريقها نحو التحول. لكن هذه التحديات كذلك تشير إلى مجالات جديدة للابتكار والتقدم. لا تخلو الأزمات من بذور لإمكانية الحل، وقد وصلنا إلى منتصف الطريق بمعرفة ماذا علينا أن نفعل، المطلوب اليوم هو وضع هذه المعرفة موضع التنفيذ بجدية وإصرار على النجاح والوثوق بالإنسان الخليجي وبالشعوب الخليجية والوثوق بالنفس أولا وأخيرا.