- تقرير ديوان الرقابة المالية .. احتفالية سنوية!
تاريخ النشر 4 ديسمبر 2013 – طباعة 2
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
ظهور الامراض في الجسم امر طبيعي وهي سنة الحياة. وسنة الحياة كذلك تقتضي ان تشخص أسباب الامراض وتحدد وصفات علاجها، وقد تنجح خطة العلاج او لا تنجح. لكنها تخضع للتقييم المستمر، وفي شفافية تامة. مع استمرار عرض الاراء والمناقشة الى ان يتم التوصل الى حل افضل. تظهر في الجسم اعراض تدل على وجود خلل او فشل في اجهزة الجسم. فتظهر الحمى وتظهر “الدمامل” ويتساقط الشعر والروائح الكريهة. هذه كله اعراض وليست امراضا، هي وسيلة الجسم للاستصراخ وطلب النجدة وتعطي انذارا وتنبئ عما هو اخطر قبل ان يستفحل ويستعصي علاجه. لكن اذا تجاهلنا الانذار بحجة “اذا بليتم فاستتروا” او لم نعترف بوجود خلل ولن نتخذ اي اجراء ولم نقبل اخذ الدواء لكونه مرا ام مكلفا او به مخاطرة او يتنافى مع الاعراف والعادات والتقاليد فان المرض يستفحل ويقضي على الانسان.
جسم الانسان هو منظومة متكاملة مترابطة يعتمد كل جزء منه على سلامة واستقامة ونزاهة الجزء الاخر. والحديث الشريف يقول “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. واهم جزء منه العقل، اذا سلم سلم الجسم.
لاتختلف الدولة والمجتمعات والنظم السياسية الحاكمة عن جسم الانسان. فهي تحكمها نفس القوانين التي تحكم المنظومات البيولوجية. وهذا ما اراد قوله الفيلسوف الفرنيس (اوغست كونت) عندما اسس لعلم الاجتماع الحديث. فالدولة لها انذاراتها ومؤشراتها التي تدل على وجود خلل ما بهذا الجسم. المشكلة ان البعض يعتبر هذه الاعراض او الظواهر امراضا ويحاول اخفاءها تماما كما يفعل الانسان عندما ياخذ مسكنات للالم من دون معالجة مصدر الالم واسبابه.
في الاسبوع الماضي ظهرت لدينا حالتان من اعراض المرض الذي يعاني منه مجتمعنا ونظامنا الاجتماعي والاقتصادي. احداهما ربانية وهو نزول المطر، فبدلا من الاستبشار به اصبح ماساة للبعض وتعكيرا لحياة آخرين وتعطيلا للطرق وفيضانات في مناطق جديدة لم يمر على انشائها اكثر من سنتين. كشف المطر عن كثير من اعراض المرض اولها عدم استعداد البنى التحتية لتحمل تاثير المطر وانهيار مساكن الفقراء التي كانت متهاوية من الاساس، الى ضعف التخطيط والتنسيق بين الوزارات. كُتب الكثير عن هذه الظاهرة وحاولت الوزارات شرح ما قاموا به من اجراءات، لكن الضرر قد وقع والسمعة تشوهت بالرغم من تاكيد وزيرة الاعلام قبل ايام ان شوارعنا على افضل مستوى”.
اما الظاهرة الثانية لهذا المرض فهي كذلك اصبحت موسمية مثل الامطار وهي صدور تقرير ديوان الرقابة المالية والادارية. هذا التقرير الذي يطلق كل عام “حفلة سنوية” تتناوله المجالس والمنتديات ومجلس النواب والصحافة مدة شهر ثم تنتهي الحفلة، وتتناول الصحافة قضية اخرى من اعراض المرض. فلدينا تقارير البطالة، والمطالبة بزيادة راوتب الطبقة الفقيرة (34 الف عائلة تعيش على اقل من 300 دينار في الشهر) اي 25% من العائلات تحت خط الفقر النسبي. وارتفاع الدين العام الى 60% تقريبا، وظاهرة الاسكان المستفحلة، وظاهرة عدم امكانية تطبيق القانون او محاسبة المتسببين. وتقارير اخرى كثيرة تنال اهتمام الصحافة لفترة وسرعان ما تهدأ لتتناول قضية اخرى ومظهر اخر من اعراض المرض الذي يعاني منه المجتمع والدولة.
في الاسابيع الماضية وما قبلها توالت المقالات التي تتحدث عن كثير من اعراض المرض. فقد ذكر احد المقالات في الصحافة المحلية تضخم الجهاز الاداري والوزاري بحيث وصل عدد الوزراء الى 80 وزيرا او منصب وزير يلكف الدولة بحسب المقال ما يقارب 80 مليون دينار. في نفس الوقت تعجز الدولة عن دعم المتقاعدين بخمسة ملايين دينار ويتساءل المقال “لييش”. وهناك كتاب مثل الدكتور ابراهيم الشيخ لا يخلو اسبوع من مقالين او ثلاثة عن الفساد واملاك الدولة والتجريف والتآكل البيئي. او مقالات السيدة وفاء جناحي في اخبار الخليج، تتحدث عن جوانب اخرى من اعراض المرض. فما هو السبب وراء كل هذه الاعراض. ولماذا يستعصي حلها ولماذا يعجز مجلس النواب والسلطة القضائية والنيابة عن التعامل مع هذه القضايا بما يعالجها او يتعامل معها على الاقل على انها اعراض يجب ايقافها وان لم يتمكنوا من التوصل الى الداء الحقيقي خلفها. لماذا يحدث ذلك؟
نرى ان جميع هذه المظاهر ما هي الا اعراض ومؤشرات لوجود خلل في التوازن بين مؤسسات الدولة وسلطاتها وعلاقاتها بعضها مع بعض ومع المجتمع. المشكلة ليست فردية. ليست مشكلة الوزراء او النواب بل هي مؤسسية. تبدأ في المجال السياسي وتنتشر الى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اي ان العلة ليست في السلطة التشريعية او السلطة القضائية او النيابة او ديوان الرقابة بل في العلاقات بين هذه المؤسسات وصلاحياتها وسلطاتها ونطاق مسئولياتها وكيفية تعيينها ومدى استقلاليتها. هناك مؤسسات اقوى بكثير من مؤسسات اخرى مما يؤدي الى عدم القدرة على المساءلة الحقيقية واعاقة الشفافية. العلاج يكمن في اصلاح سياسي يعيد التوازن بين السلطات لكي تكون المساءلة والمحاسبة فاعلة تطول كل مسئول.