- دعوة الى مراجعات في الرؤية الاقتصادية
تاريخ النشر :25 يناير ٢٠١٧
بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الهدف من التنمية الاقتصادية في المطاف الاخير هو توفير مستوى معيشى افضل لجميع فئات المجتمع وهذا ياتي من خلال اقتصاد متنوع يخلق فرص استثمارية وفرص عمل مجزية ومتكافئة لابناء الوطن وقدرة على التجديد والابتكار واستخدام التقنيات في توسيع القاعدة الانتاجية وتنويعها.
وضعت البحرين ودول الخليج رؤى اقتصادية لتحقيق هذه الغايات والاهداف منذ ما يزيد على العقد من الزمن، في فترة كانت الاوضاع مختلفة من ناحية اقتصادية وسياسية واجتماعية. اما الرؤى فمازالت ثابته على منهجها واهدافها المرحلية، دون ان تحقق تقدم يلمسه المواطن في مستوى معيشته، بل ان ما يحدث هو عكس ذلك تماما. بينما يستمر المسئولون في الحديث عن وضع التصورات لتوسيع القادعة الانتاجية ولتنويع مصادر الدخل من خلال التركيز على الصناعة والسياحة والخدمات لخلق فرص عمل مجزية للمواطنين. والان وبعد هذه الفترة مازال معدل البطالة بين الشباب مرتفعا في مستويات غير مقبولة وغير معلنة رسميا، ومازال تنويع مصادر الدخل هدف غير محقق!
هذا يطرح السؤال: الا ينبغي في مثل هذه الظروف عقد مراجعة شاملة للرؤية الاقتصادية اخذين بعين الاعتبار التغيرات التي طرأت على المجتمع وعلى الوضع الاقتصادي والسياسي؟
واجهت البحرين هبوط اسعار النفط بخطوات تقشفية تمس المواطن، فبدأت برفع الدعم عن اللحوم ومن ثم الوقود، ثم رفعت العديد من الرسوم والضرائب وينتظر المجتمع ضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل. في نفس الوقت لا يرى المواطن ترشيد في مصاريف اخرى وعطايا وهبات وبرامج عبثية تمثل توزيع غير عادل للثروة وادارة غير مجدية للموارد. كذلك في نفس الوقت تزداد حالات الفساد والهدر وسوء استخدام الثروة الموثق في تقارير رسمية، وزيادة في نسبة الدين العام سنويا لتغطية العجز في الميزانية العامة. هذه الممارسات والسياسات لها تاثير مباشر سلبي على حياة الناس ومستوى معيشتهم. وكلما زاد هذا التاثير ارتفعت وتيرة الامتعاض المجتمعي وبرزت بشكل اكبر حالات الفساد والبذخ والصرف داخل الميزانية وخارجها.
يمكن ان يتحمل المواطن تاثير ذلك اذا رأى وجود استراتيجية واضحة امامه تجيب على اسئلته وتطرح حلول وسياسات للخروج من هذه الازمة وتمنحه امل لمستقبله ومستقبل ابنائه واحفاده. غير ان المسار الحالي الذي يعتمد على المفاجآت وردات الافعال وتجزءة المشاكل وترحيلها لا يخدم مصالح المجتمع ولا مصالح الدولة. ويزيد من حالة الاحتقان وعدم الرضى.
اول فقرة تحتاج الى مراجعة جذرية في الرؤية هي ما يتعلق بالمحور الاجتماعي الذي غابت عنه تماما التحولات السياسية وتاثيرها على الاستقرار وبالتالي على فرص الاستثمار وفرص العمل ونوعيتها وتاثير توافرها على النمو من ناحية وعلى الاستقرار السياسي من ناحية اخرى.
في هذا المحور كذلك نحتاج الى اعادة النظر في دور المواطن في وضع هذه الاهداف والوسائل والخطط، والافراج عن المعلومات التي تمكنه من تقييمها ووضع آلية ملزمة لمنحه ما يطلب من معلومات لتسهيل مهمته. في الفترة التي وضعت فيها الرؤية كان المواطن انسانا مختلفا عنه اليوم. المواطن اليوم يطالب باشراكه في هذا الحوار واختيار الوسيلة المناسبه له والتي تراعي مكان تواجده وكيفية التواصل معه. كما يتطلب الامر اشراك النواب وممثلي الشعب في هذا الحوار من باب الشمولية.
الجانب الاخر الذي يحتاج الى مراجعة وحوار هو المبدء الاقتصادي الذي تقوم عليه الرؤية، طوال المرحلة السابقة اعتمدنا مبدء تحرير الاقتصاد والاعتماد على القطاع الخاص. هذا الاتجاه فتح الباب على مصراعيه للاجانب للاستفادة من فرص العمل القليلة التي يخلقها الاقتصاد. هذا التوجه يحتاج الى مراجعة ومناقشة مع المجتمع وممثليه من تجار وشخصيات وطنية ومؤسسات مجتمعية. لا ينبغي ان يتم اتخاذ مثل هذا القرار بشكل منفرد بعد ان رأينا نتائج ماسبق. فمثلا قرأنا التقارير المنشورة في الصحافة عن عدد فرص العمل التي ذهبت لغير البحرينيين في ظل وجود كوادر بحرينية عاطلة وتبحث عن عمل منذ مدد طويلة من بينهم طيارون ومهندسو طيران واختصاصيون من مختلف المهن والتخصصات. فاين فرص العمل التي يخلقها الاقتصاد؟ وما رأي الحكومة ومجلس التنمية في ذلك؟ ومن المسئول عن استفادة الاجانب من النسبة الاكبر منها؟
البطالة مسئولية الحكومات، فمنذ ثلاثينات القرن الماضي وظهور “النظرية الاقتصادية الكينزية” لا تستطيع الحكومات ان تدعي ان اليد الخفية سوف تعالج المشاكل الاقتصادي بآليات العرض والطلب فقط، بالرغم من الليبرالية الجديد في فكر “ملتون فريدمن”. الحكومات منذ ذلك الوقت اصبح لها دور اساسي في السيطرة على الاداء الاقتصادي من خلال سياسات مالية ونقدية وسياسات التدريب والتأهيل والتعليم والتدخل المباشر في الاستثمار لخلق صناعات محلية. ليس فقط لان معالجة البطالة يعتبر عنصر هام واساسي في النمو الاقتصادي ولكنه كذلك قضية انسانية وقضية امن قومي وعامل مهم في الاستقرار وتحقيق للعدالة.
لذلك نرى انه اصبح من الضروري اجراء مراجعة على رؤيتنا الاقتصادية وسياساتنا واستراتيجياتنا. ولاعطاء هذه المراجعة فرصة لتحقيق نتائج ينبغي اولا: ان تكون بشكل جماعي يشترك فيها المجتمع بفئاته ومؤسساته وقواه السياسية؛ ثانيا: ان تتبنى الحكومة مشروع اصلاحي يمهد المناخ السياسي لمثل هذه المراجعة لكي لا ينحرف الحوار الى قضايا طائفية تضاعف من تمزيق المجتمع. ثالثا: الاستفادة من تاثير الاحوال الاقتصادية والقضايا المعيشية التي تثار في تحقيق نوع من اللحمة الوطنية التي تساهم في انجاح المراجعة.
المسئولية بالدرجة الاولى تقع على الحكومة في اخذ زمام المبادرة والعمل على التمهيد والتهيئة للمراجعة، وبالدرجة الثانية تقع على الجمعيات السياسية بجميع اطيافها في التوصل الى توافق على قضايا اساسية توافقية توحد المجتمع والدولة.