نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف
  1. عبدالرحمن الكواكبي في الربيع العربي (2)

تاريخ النشر : 30 ديسمبر 2012 

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

عبدالرحمن الكواكبي في الربيع العربي

اشتعلت الثورات في العالم العربي ضد ثلاثة امور هي الاستبداد والفساد وتدني الاداء الاقتصادي. نتيجة هذه الآفات الثلاث تخلف العالم العربي اقتصاديا وعلميا واجتماعيا وحقوقيا وساءت احوال المواطن وتوترت العلاقة بين السلطات وبين الشعوب. انفجرت الاوضاع في بداية 2011 ونحن في بداية عام جديد مازالت حالات التوتر قائمة في عدد من الدول وهناك درجة كبيرة من الغليان في دول اخرى. 

الفساد لا يقتصر على الدول العربية وتعاني منه الكثير من دول العالم بدرجات متفاوته ولكنه وبناء على تقارير منظمات الشفافية وتقرير الفساد العالمي فان الدول الديمقراطية اقل فسادا بسبب النظام الديمقراطي الذي يستند على منظومة من التشريعات والقوانين والاجراءات والمؤسسات الرقابية اوجدت مناخا على قدر كبير من الشفافية والمساءلة والمحاسبة الجماهيرية والاعلامية والقضائية قادرة على محاسبة كل متخذ قرار ليس فقط على ما يرتكبه النظام السياسي من تجاوزات ولكن يحاسب على نتائج سياساته وممارساته وحتى تصرفاته الشخصية. نذكر مثلا ان الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتن تعرض لانتقاد شديد في الاعلام كونه دفع 200 دولار لحلاقة شعر رأسه. اعتبر المجتمع الامريكي ان مثل هذ السلوك من القيادات تؤثر سلبا في قيم المجتمع وتُعلم التبذير والاسراف فيرفضها المجتمع الحر من قياداته السياسية في حين ان بعض قياداتنا العربية تجلب الاكل من فرنسا في طائرة خاصة لحفلة زواج او عيد ميلاد. افسدت مثل هذه الممارسات القيم الاخلاقية في المجتمعات واصبح الاسراف امر يتباها به الناس حتى المعسرين منهم. ان قيم الفساد والاستبداد تنتشر من رأس الهرم فيعم المجتمع الظلم والتعدي على الحقوق. نتيجة لذلك فقدت دولا عربية الامن والاستقرار الذي هو عماد التنمية. جسد ذلك القرآن الكريم بقوله ” الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ. الانعام 82″. ربط القرآن الكريم الامن والهداية بنبذ الظلم بانواعه ومحاربة الفساد واقامة العدل.  

كتب مفكرنا الكبير عبدالرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” عن العلاقات بين الاستبداد وما ينتج عنه من آفات مجتمعية بدأها بالاستبداد والفساد – وتحدثنا عنه في مقال سابق (اخبار الخليج 21 ديسمبر 2011)- ومن ثم الاستبداد والمجد، والاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والاستبداد والمال، والاستبداد والاخلاق، والاستبداد والتربية، والاستبداد والترقي. واليوم نتطرق الى علاقة الاستبداد بآفة اخرى اوردها الكواكبي ولصيقة بالاستبداد ومتفشية في الدول العربية وهي الاستبداد والمجد. 

يقول الكواكلي في الاستبداد والمجد بان طلب المجد امر مشروع ولكن التَمجُّد هو ما تعاني منه الامة متمثل في التقرب الى المستبد بالفعل كالاعوان والاتباع. يتولد عن ذلك مستبدين صغار يبطشون بالامة ويفسدون في الارض ويخدعون العامة. يُسرفون في اموال الامة في ملذات وتأييد للمستبد واقامة الاحتفالات وتشييد القصور وتعطيل مصالح الناس. يقول جل شأنه “فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ. 45 الحج” فتشييد القصور وتكديس المال في البنوك الغربية في الوقت الذي تعاني منه المجتمعات من الفقر والبطالة هو سبب من اسباب اشاعة الخوف وفقدان الامن والهلاك. 

يواصل في شأن المتمجدين فيصفهم بانصار للجور واعداء للعدالة وهم نتاج الاستبداد. يستخدمهم المستبد سماسرة لتغرير الامة باسم خدمة الدين او حب الوطن او توسيع المملكة اوهيبة الدولة واستقلالها وسيادتها. في هذه الفئة يعمد المستبد الى التجربة فيحاول افساد بعض العقلاء ظنا منه انه يستطيع تشكيلهم على مايريد، فيستقر من ينجح معه وينكل بمن يستعصي افساده، فلا يستمر الا الجاهل العاجز يعبده من دون الله. عادة تكون هذه الفئة من العريقين الوارثين من آباؤهم لذة التمجُّد ومهارة الاستبداد واستمراء ثمن اذلال العباد. يستعملهم المستبد مستخدما سياسة الشد والرخاء، المنع والاعطاء، واشاعة الفساد واثارة الشحناء بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب احدهم باسم العدالة لارضاء العامة. وقد رأينا في بداية الشهر الماضي، في دولة عربية، كيف ان مجموعة من المسئولين خضعوا للمحاكمة بتهمة الفساد واستملاك اراضي شاسة ومنازل فخمة. 

الحاصل ان المستبد يُذل الاتباع ويجعلهم مطيعين له قادرين على اذلا الناس. بهذه الحاشية المتمجِّدة يرى المستبد نفسه وقد اصبح إلها بعد ان كان انسانا وتزداد حاجته لجيش من المتمجدين لحمايته. المستبد الفاسد والحكومة المستبدة تكون مستبدة بجميع فروعها وطبقاتها، من الشرطي الى الكاتب الى المسئول الى الوزير، بهذا النوع من الحزم يدوم له الملك، الحكومة تصبح حكومة المستبد وليست حكومة الامة، والجيش جيشه وليس جيش الشعب، وامامنا امثلة حية في سوريا واليمن وليبيا. والثمن هو التلاعب والعبث في اموال المجتمع واستباحتها، فيعم الفساد والتملق والنفاق وتصبح قيم شائعة في المجتمع، فيرسل لهم رجال الدين ليعضوهم بعد ان افسدوهم، وهو يعلم ان رجل الدين لن ينجح لان الهدم اسهل واسرع من البناء والاصلاح.

ان تقرير شكل الحكومة هي اعظم واقدم مشكلة سياسية في تاريخ البشر والمعترك الاكبر لافكار الباحثين. نحج الغرب في وضع قواعد اصبحت بديهيات لديه ومنفور منها في الشرق. فالنظام الديمقراطي الشفاف يقوم في الغالب على مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص وليس على صلة القربى والمحاباه والمحسوبية. الديمقراطية تُضعف المتمجدون وتقلل من تاثير الحاشية التي تمنع عن الحاكم ما تريد وتسمح بما ترغب وتتحكم فيما يسمع ويرى. لكننا في العالم العربي مازلنا نصارع وننازع للحفاظ على نظام استبدادي تجاوزه الزمن ويمنع الانسان من الحياة الحرة الكريمة ويقف عائق في طريق التقدم والتنمية والرقي. فهل ينجح الربيع العربي في تغيير هذه الصورة وتنقشع الغمامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *