انخفاض أسعار النفط والاعتماد على الضرائب سوف يضعف الدولة الريعية وتبدأ مرحلة جديدة من العلاقة بين السلطة والمواطن والمجتمع.
http://www.akhbar-alkhaleej.com/13732/article/49753.html
في مقالات سابقة افترضنا أن الضرائب هي المخرج الأنسب لانخفاض سعر النفط في الخليج، والآن ظهرت إشارات واضحة إلى أن الدول الخليجية بدأت فعلا في التفكير في أي نوع من الضرائب تفرض لتمويل الدولة، ونسيت تماما إعادة النظر في الأوضاع الراهنة لتوزيع الثروة وبعض مظاهر البذخ. يؤكد اقتصاديون ان دول الخليج تتجه نحو تعزيز سياسة التنويع الاقتصادي من عدة مداخل، أولها زيادة جذب الاستثمار الأجنبي النوعي وتوطين التقنية والصناعات الحديثة، وزيادة الإنتاج بجودة عالية وزيادة الصادرات، فضلاً عن الإصلاح الضريبي، بغية زيادة الإيرادات وسد فجوة انخفاض أسعار النفط. ويؤكد الباحثون الاقتصاديون أن الاتجاه نحو «ضريبة القيمة المضافة» هو الخيار الأنسب.
تقوم المجتمعات الخليجية على صراعات سياسية متمثلة في تقسيمات اجتماعية. هذه الصراعات أوجدت حالة من التوازن تختل بين الحين والآخر، ولكنها صمدت على مدى ما يزيد على مائتي سنة وخدمت المنطقة إلى حد ما حتى وإن أدت إلى تشوهات عميقة في المجتمع، لكنها على الأقل حفظت امنها واستقرارها واوجدت حدا أدنى من القبول يسمح بحياة عادية لشرائح كبيرة من المواطنين، وأدت إلى نوع من التنمية يعتبر متقدما مقارنة بدول عربية أخرى. غير ان انخفاض سعر النفط وضرورة الاعتماد على رفع الدعم وتنويع مصادر الدخل واحتمال فرض ضرائب مُقَنَّعة أو ظاهرة من شأنه أن يحدث تحولات في البنية السياسية والاقتصادي في المجتمع.
أحد هذه التحولات هو كيفية تمويل الدولة وما يفرضه من إعادة تعريف بعض المفاهيم والقيم والمسلمات. من المفاهيم الكثيرة التي قد تحتاج إلى إعادة تعريف وفق التحول الجديد في المجتمع هي العلاقة بين المجتمع والدولة والسلطة، والعلاقة بين المواطن والمال العام الذي ينبغي ان يُستخدم في الصالح العام فقط وألا يتم التصرف فيه وكأنه مال خاص، وأن تكون جميع المخصصات خاضعة للمجلس النيابي ومناقشته العلنية. مفهوم آخر يحتاج إلى إعادة تعريف وهو الصالح العام، وأن ينظر إليه من وجهات نظر مختلفة، كذلك ماذا نعني بحكم القانون وكيفية صياغة القانون ومن يقوم به وفي صالح من يكون، وخصوصا إذا كان متعلقا بفرض الضرائب وتوزيع المال وحق التصرف فيه، وتحديد المؤسسات التي تدير المال العام وكيف يتم السيطرة عليها وإخضاعها إلى إرادة المجتمع والى المساءلة والمحاسبة.
من التحولات الأخرى المطلوبة هو تغيير في نظرة القيادة حول التنمية وماذا تعني وكيف يتم التخطيط لها بدلا من المفهوم الحالي القائم على الإنشاء والعقار. كما نحتاج إلى تحول في فهم وتعريف الأمن الوطني وكيفية تحقيقه في ظل المتغيرات الإقليمية. كذلك نحتاج إلى تحديد مفهوم التنمية الإنتاجية المعرفية التي لا تعتمد على النفط والقادرة على خلق فرص عمل مجزية للشباب.
الوضع الجديد سوف يطرح عددا من الأسئلة حول القوى التي ستؤثر في وضع القوانين وتأثرها بمصالحها، هل النظم السياسية قادرة على التعامل مع قوانين المال العام المكون في جزء منه من الضرائب وجبايتها وإدارتها، وهل المجلس النيابي في البحرين بتركيبته الحالية وسلوكه الحالي وعقليته قادر على تفهم ابعاد أموال الضرائب والتخلي عن عقلية الحكم الريعي؟ كيف سيتم اعتبار هذه الأموال؟ هل هي مال عام أم انها أموال نفط (غنائم) مباحة؟ كل هذه أسئلة ينبغي التعامل معها في التحول التدريجي من المجتمع الريعي إلى مجتمع يدفع فيه المواطن ضرائب مقابل الخدمات. ضرائب تستقطع من نصيبه من الريع أو ضرائب يدفعها من دخله أو من مشترياته أو من املاكه. في هذه المرحلة تصبح عملية فرض الضرائب أمرا إيجابيا ومصلحة وطنية (رب ضارة نافعة) لكونها تسرع عملية التحول والخروج من النظام الأبوي الريعي الاتكالي وتعطي المال العام حرمة خاصة وتجعل المجتمع يدرك أن هذه أمواله وعليه واجب المحافظة عليها من الهدر والفساد ويطالب بحسن إدارتها وتحقيق نتائج لتطوير وتنمية المجتمع والانسان. هذا هو التحول الاجتماعي الذي نعتقد أنه سيحدث، وقد بدأت بوادره في ردة فعل المجتمع حول رفع الدعم عن اللحوم، وستكون ردة الفعل أكبر في حالة رفع الدعم عن الكهرباء والوقود وفرض ضرائب في نهاية المطاف، حيث إنَّ رفع الدعم لن يعالج العجز.
هذه الضرائب هي أموال عامة لها حرمتها ويفترض أن تستخدم في تحقيق مصلحة عامة تخدم المجتمع وتطوره ونموه، وتوفر له الأمن والخدمات النوعية التي يرضى عنها، وله حق المساهمة في تشكيلها. هذا يعني أننا بحاجة إلى صياغة نظام سياسي تمثيلي يحدد المصلحة العامة وفق توافق مجتمعي، ومنفتح وقادر على خلق التنمية ويُمَكِّن كل فئة في المجتمع من تنظيم نفسها للدفاع عن مصالحها، وفي نفس الوقت تحافظ على المصلحة العامة والمال العام.
نحن في منطقة الخليج على اعتاب هذه الحقبة وسوف نصل إليها عاجلا أو آجلا. وحركتنا في هذا الاتجاه تعتمد على عوامل خارجة عن إرادتنا تتعلق بالنفط وأسعاره والتقدم التكنولوجي في البدائل وفي الاستخدامات، لكن ذلك الوقت آت وعلينا الاستعداد له. يعلق المجتمع الكثير من الآمال على انتهاء حقبة الدولة الريعية ودخول حقبة مفهوم جديد للمال العام وحرمته ودوره في تحقيق التنمية والنهضة الشاملة والقضاء على البطالة واستشراء الفساد. للأسف لا توجد مراكز أبحاث مستقلة قادرة على صياغة رصينة لنظريات التحول السليم من الوضع الريعي الذي نحن فيه إلى الوضع المستقبلي الذي ينتظرنا، ولا نرى من النخبة السياسية تصورا للمستقبل المنظور. لكننا متيقنون من أن الخطوة الأولى لا بُدَّ أن تكون في تحول تدريجي نحو النظام الديمقراطي الحقيقي والمساءلة، تقوده الأنظمة نفسها، أفضل من أن تفرضه عجلة التحول الاجتماعي الذي بدأ.