نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

البنك الدولي وطريق جديد في إصلاح التعليم (4)

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ١٥ أبريل ٢٠٢٠ – 02:00

انتهينا في المقال السابق (أخبار الخليج 8 أبريل 2020) إلى أن إصلاح التعليم هو قضية حاسمة في مسيرة التقدم لدول المنطقة، ولكنها غير كافية كونها تتعامل مع جانب واحد من المعادلة الاقتصادية، وهو جانب العرض. رفع العائد على الاستثمار في التعليم يحتاج إلى إصلاح جانب الطلب، وهذا يشمل سوق العمل والقدرة الإنتاجية. قلنا في المقال السابق إن هناك مسارين، الأول إصلاح سوق العمل من خلال خلق توازن هيكلي لتغيير خصائصه، وسياسة تنظيم القطاع الخاص وتطويره، مثل سياسات توظيف العمالة في مجالات عالية الإنتاجية وتستغل قدرات ومهارات الخريجين، بالإضافة إلى السيطرة على الزيادة السكانية. والمسار الثاني هو تنمية القدرة الإنتاجية التي تعتمد على عوامل عدة منها تغيير محركات النمو الاقتصادي في التوجهات التي ترفع من إنتاجية العامل والاقتصاد ككل. وفي هذا المقال سوف نناقش هذه المحركات التي يراها البنك الدولي وغيره أساسية لرفع العائد على الاستثمار في التعليم ورفع مستوى المعيشة.

قبل سرد محركات النمو التي تمثل خيارات تنموية على مستوى الطلب، نُعرج على الأداء الاقتصادي منذ السبعينيات بشكل سريع، والحاجة إلى الانتقال من مرحلة النفط إلى مرحلة ما بعد النفط. تمكنت المنطقة من تحقيق نمو اقتصادي في الستينيات والسبعينيات تترافق مع قلة مشاركة الإناث في السوق، ما مكنه من استيعاب الزيادة السكانية، لكن في التسعينيات كانت معدلات البطالة في المنطقة أعلى من أي منطقة أخرى. زيادة التعليم لم تؤثر في تخفيف معدلات البطالة. في الواقع أن المغرب والجزائر التي بها مستويات جيدة من التعليم كانت تعاني من ارتفاع معدلات البطالة أكثر من غيرها. زيادة البطالة جعلت دول المنطقة تستثمر أكثر في التعليم الثانوي والجامعي لتأخير دخول الشباب في سوق العمل. 

يتسم الوضع الراهن في المنطقة العربية ودول الخليج بشكل خاص بكون النفط يهيمن على الاقتصاد. المنطقة بأسرها بها عدد سكان 350 مليون نسمة، ومع ذلك فإن صناعاتها تقدر بأقل من دولة صغيرة مثل فنلندا أو حتى هنجاريا (المجر) بعدد سكان لا تتعدى عشرة أو خمسة ملايين نسمة على التوالي. هذا الوضع العربي والخليجي يختلف عن شرق آسيا مثلا وبعض دول أمريكا اللاتينية التي يستوعب قطاعها الصناعي نسبة كبيرة من الخريجين. ونظرا إلى محدودية قدرة القطاع العام في التوظيف، فإن ذلك خَلَّف أعدادا كبيرة من العاطلين لمدد طويلة في انتظار فرص عمل في الحكومة أو في قطاع خاص متثاقل ومحدود، ولم تكن سياسات الاقتصاد الكلي وسياسات الانفتاح الخارجية متسقة دائمًا مع الاستفادة من الفرص الصناعية والتجارية المتاحة.

النقطة الرئيسية في تقرير البنك الدولي هي أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لم تشرع بعد بشكل كامل في طريق إصلاح أنظمتها التعليمية لتلبية احتياجاتها الإنمائية. كما أنها لم تلحق بعد بالاقتصادات الأكثر ديناميكية في العالم الصناعي الجديد ليتطور التعليم لديها بما يحقق عوائد اقتصادية أفضل. أي أن إصلاحاتها الاقتصادية لا تزال دون المستوى وغير قادرة على ترجمة رأس المال البشري المتوافر الى قدرة إنتاجية أكبر وارتفاع في مستوى المعيشة. 

إذا، نحن أمام ضرورة الانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط، والتخطيط لبناء اقتصاد قوي ومزدهر ومستدام، وبناء نموذج تنموي ناجح يعزز تنافسية الاقتصاد عالميا، ويحقق التفوق للدولة المعنية في المجالات التنموية المختلفة مقارنةً بنظيراتها من دول العالم المختلفة. السؤال فقط يدور حول ما هو هذا النموذج ومتى يكون ذلك؟

بذلت دول الخليج عموما جهودا في تطوير البنى التحتية، التي أسهمت في تطوير قطاعات أخرى من الاقتصاد، لكن استمرت الصناعة النفطية هي المحرك الأساسي للاقتصاد، إذ أسهمت بنسبة تزيد على 80% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، هذا بالرغم من قناعة سياسية بان النفط آيل للنضوب أو انه يفقد قيمته مع وجود بدائل اقتصادية أخرى. هذا يجعل عملية تنويع محرك الاقتصاد أمرا استراتيجيا بالغ الأهمية لمستقبل المنطقة. 

أمام المنطقة خيارات، منها تجارب دول شرق آسيا وإلى حد ما تجارب دول أمريكا اللاتينية. اعتمدت شرق آسيا على الاستفادة من تكنولوجيا الدول الغربية وخلق قدرات صناعية تغذي الصناعات الغربية وتندمج معها في مراحل التصنيع. هذا توجه نجح بسبب التركيز على التصدير اكثر من «إحلال الواردات» الذي اعتمدته بعض دول أمريكا اللاتينية. كذلك أمام المنطقة خيار الاندماج في الثورة الصناعية الرابعة أو الثورة الرقمية بملامحها من الطباعة الثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات الضخمة، والروبوتات، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي، وغيرها. هذه المجالات يمكن اعتبارها بداية البحث عن قطاعات اقتصادية فاعلة وتناسب طموح شباب المنطقة. فهل نحن مستعدون أولا؟ ثانيا، هل يمكن لدولنا أن تنجح في مثل هذه الثورة؟ وهل يمكن أن يقوم اقتصاد معرفة بدون قطاع صناعي وزراعي نشط؟ 

يقول أ.د. جمال سند السويدي (جريدة الاتحاد، 3 فبراير 2020) إن هذه التحولات التي تشهدها البشرية اليوم في المجالات المعرفية والتكنولوجية هي مجرد إرهاصات، إذ لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تصل الثورة المعرفية والتقنية، وهو ما يجعل وضع الخطط اللازمة في غاية الصعوبة. فدور التكنولوجيا لا يقتصر على خلق مجالات عمل وقطاعات اقتصادية جديدة، وإنما يشمل تعزيز كفاءة استغلال الموارد المتاحة وإنتاجية العمل في القطاعات المختلفة القائمة بالفعل أو الجديدة الناتجة عن ضخامة البيانات التي يعتبرها البعض نفط المستقبل. 

إقرار بهذه الصعوبات في وضع الخطط لتنويع محركات الاقتصاد والتزاوج بين الخيارات المطروحة يُبرز أسئلة عديدة حول المحركات التي يمكن أن تستفيد من خصائص المنطقة الخليجية والعربية. وماذا تحتاج دول المنطقة للاستفادة من هذه المحركات؟ وهل البيئة العامة مناسبة لنجاح المحركات التي نختارها؟ وهل لديها القدرة على إحداث الإصلاحات المختلفة بشكل متوازي بحيث نستفيد من الزخم الحادث من هذه المحركات والتفاعل بينها. وأخيرا هل لديها الإرادة لخلق المنظومة الابتكارية اللازمة لأي من الخيارات، ولجني ثمار الثورة الصناعية الرابعة؟

mkuwaiti@batelco.com.bh  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *