نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

اختط الدنماركيون طريقا مختلفا نحو الديمقراطية اقل عنفا واكثر تأصيلا على العلم والفكر الديني المنفتح المتقبل لفكرة سيادة القانون وحق الفرد في الحياة الحرة الكريمة.

http://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1083524

منذ خمسينيات القرن الماضي وبعض الأنظمة في الوطن العربي في صراع مع الحداثة والتنمية والتطور. تحاول هذه الانظمة الوصول إلى معادلة تحقق التقدم والامن والاستقرار والرخاء لشعوب المنطقة وفي نفس الوقت التمسك بالسلطة والثروة والتشبث بالقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ورفض مشاركة المجتمعات. لتحقيق هذه السيطرة تم ابعاد كل من يهدد «استقرارها»، وتم تقبل بعض ممارسات الفساد لإرضاء الاعوان على ضبط وتيرة المجتمع والهيمنة وإحكام السيطرة عليه. لا نعلم اي نظرية أو تجربة يمكن ان تساعد في تحقيق هذه الوصفة المستحيلة.

لا توجد -بحسب ما نعلم- دولة نجحت في التنمية عن طريق الهيمنة والاقصاء والاستحواذ. معظم التجارب والنظريات تنادي بالمشاركة السياسية والاقتصادية في التخطيط وفي القرار وفي التنفيذ والمراجعة والتصحيح. اما بعض الانظمة العربية فتصر على اعتماد طريق خاص بها لم تهتدِ اليه بعد.

خطَّت الدول الغربية لها طرقا مختلفة ومتعددة نحو الحداثة والتطور وبناء الدولة المدنية الحديثة القائمة على اسس المواطنة المتساوية. ومن باب التحفيز لا التقليد نذكر هنا الرحلة الدنماركية نحو الرقي وبناء الدولة المركزية القوية التي تحتل المراكز الاولى في معظم مقاييس التنمية من مختلف ابعادها بما فيها الشفافية وحقوق الانسان والنزاهة.

تخضع الدولة الديمقراطية الحديثة لثلاثة أنواع من المؤسسات هي الدولة القوية المركزية وحكم القانون وحكومة مساءلة. تتعايش هذه المؤسسات في توازن يمنع هيمنة اي منها على الآخر. والقدرة على تحقيق هذا التوازن هو من سمات الدولة الحديثة. فالدولة تفرض القانون، ومؤسسات القضاء تنفذ وتطبق حكم القانون وتُخضع الدولة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية للقانون ويحد من سطوتها على الفرد والمجتمع، والحكومة المساءلة تدير شؤون المجتمع وتسهم في الحد من سطوة الدولة وفق مساءلة مجتمعية.

للتذكير فقط فإن الغاية التي تسعى اليها الشعوب في دولها تتمثل في العيش المستقر المطمئن الآمن والمزدهر الذي يلبي احتياجاتهم المادية والمعنوية والروحية ويمنحهم الفرص المتكافئة في تطوير الذات وتحقيقها من خلال المشاركة الفاعلة في ادارة الشؤون العامة. بعض الدول تمكنت من انشاء مؤسسات قادرة على تلبية متطلبات شعوبها هذه وتمنحهم البيئة الصحية لتطوير الذات والعيش الكريم. من هذه الدول نذكر الدنمارك التي وردت كمثال في كتاب «جذور النظام السياسي» لفرانسيس فوكوياما.

بعد استقرار أوروبا من مرحلة الحروب القبلية والاجتياحات والاحتلالات في الالفية الاولى، حكم الدنمارك سلالة من الملوك عاشت في تنافس مع الطبقة الارستقراطية، وفي القرن الثالث عشر تم وضع أول خطوة نحو المشاركة السياسية من خلال ميثاق اعطى للبرلمان حق الاستشارة ومنح بعض الامتيازات للكنيسة.

النقطة الفاصلة كانت الحرب الاهلية بين الكاثوليك والبروتستانت التي تغلبت فيها القوى البروتستانتية وتم انشاء الكنيسة البروتستانتية اللوثرية عام 1536، من أهم منتجات هذه الحركة الإصلاحية واكثرها تأثيرا سياسيا هو اهتمام الملك والقيادات البروتستانتية بتشجيع تعليم الفلاحين انسجاما مع العقيدة البروتستانتية التي تؤمن بقرب الانسان من ربه وضرورة معرفة قراءة الانجيل وعقيدة لوثر وتعاليمه. في بداية القرن السادس عشر بدأت الكنيسة اللوثرية بإنشاء مدرسة في كل قرية لتعليم الفلاحين القراءة والكتابة. النتيجة انه في القرن الثامن عشر اصبح الفلاحون في الدنمارك متعلمين ومنظمين كطبقة مجتمعية لها شخصيتها ومصالحها. اي ان الدافع الديني ادى إلى خلق طبقة فلاحين فاعلة ومتعلمة ومنظمة سياسيا وهذه كانت خطوة اولى.

في الفترة من 1760 إلى 1792 وأثناء الحكم المستنير نسبيا تم منح الفلاحين حق الملكية الفردية والحد من سلطة اللوردات عليهم كما تم منحهم حقوق التعامل التجاري. نظر الملك إلى منح الفلاحين هذه الحقوق على انها أولا تضعف سلطة الطبقة الارستقراطية من النبلاء وملاك الاراضي الذين يعارضون إصلاحاته. وثانيا فإن الفلاح الذي يملك الارض يكون اكثر انتاجية من الفلاح المسخر لخدمة ملاك الارض (متأثرا في ذلك بكتاب ادم سميث الصادر في 1776). لكن الاهم هو ان الفلاحين متعلمين ومنظمين وبذلك فهم مستعدون لاقتناص الفرص التي تتاح لهم بالتحرر الاقتصادي والانتاجي وهذه كانت خطوة ثانية.

أمر ثالث أسهم في صنع الديمقراطية الدنماركية هو حدث خارجي. ففي الحروب النابليونية انفصلت عنها النرويج، كما انفصلت الاجزاء الألمانية، وانتشرت مبادئ وفكر الثورة الفرنسية الذي حرك طبقة الفلاحين والبرجوازية للمطالبة بالمشاركة السياسية. وجدت الدنمارك نفسها دولة صغيرة متجانسة يجب عليها العيش في نطاقها الاصغر.

التحول الذي حققته الدنمارك قام على مؤسسات تعكس قيمها وثقافتها وجذورها التاريخية والاحداث التي مرت بها البلد، وبالتالي فإن المؤسسات تتشكل في بيئتها ولا يمكن انتقالها إلى ثقافات اخرى بسهولة. ولكن المهم هو المبادئ التي تطرحها هذه المؤسسات والتي تقوم عليها في تعاملها مع الفرد والمجتمع.

فقد قامت الدولة على مبادئ الفكر الديني المنفتح الذي يؤمن بخصوصية علاقة الانسان بربه، وعلى التعليم والحد من سطوة الطبقة الارستقراطية والقيم البروتستانتية التي تمجد الجد والعمل والاستقامة والادخار. أسهم في ذلك تقبل الملوك الدنماركيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر فكرة حقوق الشعب في المشاركة والمساءلة وسيادة الدستور والقانون، ووقوفهم مع الفلاحين في مواجهة الطبقة الارستقراطية من النبلاء وملاك الاراضي. وهكذا اختط الدنماركيون طريقا مختلفا نحو الديمقراطية اقل عنفا واكثر تأصيلا على العلم والفكر الديني المنفتح المتقبل لفكرة سيادة القانون وحق الفرد في الحياة الحرة الكريمة وفي الرأي الديني القائم على الفهم الخاص للفرد وحقه في النقاش والاقتناع والاحترام. ادى ذلك كله إلى النزاهة ومحاربة الفساد على جميع المستويات واحترام القانون والالتزام به من قبل الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *