بقلم: د. محمد عيسى الكويتي
الأربعاء ٠٨ يونيو ٢٠٢٢
مقال الاسبوع- حرية الدين والمعتقد ليس شعار وانما ينبغي ان يكون قناعة عربية اسلامية لكي تستطيع الامة ان تعيش في سلام وتتقدم وتنبذ التفرقة بين الشعب الواحد بسبب المذهب او التوجه السياسي. يقف في طريق ذلك الدولة عندما تدخل في سن قوانين تحاكم الرأي، ورجال الدين عند رفضهم لاي تفسير مختلف عن المألوف، والمجتمع عندما يمارس الارهاب الفكري على المختلف.
http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1298008
منتدى حرية الدين والمعتقد في الدولة المدنية
انطلقت في البحرين اعمال مؤتمر “توسعة الافق ..حرية الدين والمعتقد” بتنظيم بين البحرين والاتحاد الاوروبي بهدف ابراز التعايش السلمي بين الاديان ونبذ الكراهية، والاقرار بان الجهل هو عدو السلام والوقود الذي يؤدي الى الكراهية بين الشعوب. دعى المؤتمر الى نشر الوعي والعلم والمعرفة لمحاربة الجهل والكراهية وتاجيج النفوس ضد بعضها البعض. يسعى المؤتمر للتاسيس لقواعد جديدة لحوار لتعميق الفهم المشترك لحرية الاديان والمعتقدات واحترام التعددية المذهبية والتنوع والارتقاء الانساني على في اطار مبادئ انساينة وسيادة القانون.
نحن على يقين بان الدين الاسلامي دين محبة ودين رحمة ودين اخاء. لكن الاصولية المتشددة في مختلف الاديان والمذاهب فرضت نوع من التدين (وليس الدين) معاد للانسانية وتدين معاد للمرأة وتدين معاد للعلم والحرية. ترى هذه الفئة ان الاجتهاد قد توقف واي محاولة لنقد الفكر الديني البشري، او تقديم فهم جديد هو منافي للدين وترى في المفكرين والمشايخ والعلماء الحاليين الذين يقدمون فهم مختلف ويستجيبون لدعوات التجديد والتعايش حتى وان كانوا متخصصين بانهم يسعون الى هدم الدين والتعدي على العقيدة. تكيل لهم الاتهامات كاشخاص بناء على انتمائهم القومي او المذهبي، ووصف ما يقولونه على انه زندقة او كفر او ردة دون مناقشة ما قالوا. ناسين بانهم وضعوا لهذه الالفاظ مدلولات عنفية قد تدفع المتعصب الى تنفيذ الحكم فيها كما فعل احدهم بقتل فرج فوده وطعن نجيب محفوظ. وحتى لو سلم المجتهد من تعدي العامة، فقد لا ينجوا من تسليط قوة قانون ازدراء الاديان عليه من قبل من ينادوا بالوسطية. ازدهار هذا الارهاب الفكري لا يخدم الاسلام ولا يخدم الامة ولا يقود الى تقدم معرفي وحضاري. هذا لا يعني السماح بالتجريح والتطاول على الاشخاص.
عقد المؤتمرات امر ايجابي ويجب ان تقام، لكنها غير كافية لاحداث التغيير. يحتاج الامر الى اولا تحديد جذور الكراهية والتعصب في الفكر والتراث؛ ثانيا استخدام سلطة القانون لتجريم التكفير والاتهام بالزندقة سؤاء للاشخاص او للاراء، ووقف تصنيف الناس الى فرق ناجية وفرق حق عليها العذاب؛ ثالثا وقف العمل بقانون ازدراء الاديان الموجه ضد الاراء المختلفة والذي يُستخدم من قبل المتمسكين بالفكر التراثي واعتباره الحقيقة الوحيدة المطلقة.
الدعوة لهذه المراجعة ليست ترفا فكريا ولكنها ايمان بان تقدم هذه الامة (العربية الاسلامية) العلمي والاقتصادي والسياسي والفكري مرهون باصلاح فكرها ومنهجها ورؤيتها للعالم. تاريخنا العربي الاسلامي، كاي تاريخ بشري، قدم صور المحبة والخير والتعايش والاخوة، كما قدم صور العنف والصراع السياسي والعسكري والاجتماعي. وهذه طبيعة بشرية لم تحد عنها الامم الاخرى. وحضارتنا الاسلامية كأي حضارة مرت بفترات من الازدهار والتقدم والرقي الانساني والفكري، كما شهدت فترات الانحطاط والتشرذم. وهذا كذلك طبيعة انسانية ليست ناتجة عن الدين وانما لها اسبابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فلماذا نجعل من التاريخ والتراث حكما علينا وعائقا لانتاجنا الفكري والعلمي وتقدمنا الحضاري؟
اصرار الاسلام السياسي على فكرة توحيد الامة الاسلامية تحت سقف واحد، واعتبار الفكر التراثي مصدرا اوحد للحقيقة هما من اهم اسباب الصراع في الدول العربية والاسلامية، حوَّل بعضها الى طوائف واثنيات متناحرة غير قادرة على تكوين دولة وطنية تقوم على المواطنة المتساوية هدفها تجويد نوعية الحياة لمواطنيها، ولا يجب ان يستمر. فتاريخ الامم حافل بحضارات وامبراطويات حكمت نصف العالم ثم أفلت. لا ينبغي ان نكون اسرى للتاريخ والتراث ونحلم بالماضي. نحن نواجه واقعنا وعلينا ان نفكر كيف نتعامل مع هذا الواقع من منطلق قيم عليا انسانية ومبادئ زخر بها القرآن الكريم وعظم شأنها. يجب ان نهتم بمتطلبات التقدم والارتقاء بحياة الانسان في الدنيا في دولة مدنية ديمقراطية حديثة تقوم على توافق مواطنيها، اما خلاص الاخرة فهو علاقة خاصة بين الانسان وخالقه.
هذا يطر السؤال كيف نتغلب على الفكر الاصولي المتعصب الذي يريد ان يحكم التراث الفكري البشري ويجعل الاجتهاد الديني الذي قام بها العلماء والفهاء هو الحاكم الى يوم الدين. لم يدعي الفقهاء والعلماء الكمال والعصمة، وما ينطبق على الامام الشافعي، الذي قال “بان رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ينطبق على كل مجتهد قديما وحديثا. كيف نبين لمعتنقي الفكر الاصولي ايا كانوا ومن اي دين ومذهب، باحتمال الصواب لدى الاخرين، كما احتمال الخطأ لديهم.
الاطلاع على مختلف الاراء يجعل الانسان يقتنع بان كنوز القرآن لم تُكتشف بعد، ومازال المجال واسعا للتعلم منه وتطبيق قيمه ومبادئه. اما الادعاء باتباع السلف هو ادعاء فيه قدر من المغالطة. السلف حافل بالتنوع وحافل بالاختلاف والتعدد، فيه الائمة الاربعة وغيرهم من المدارس الفقهية الذين اختلفوا في اجتهاداتهم، وفيه المذاهب العقدية الكثيرة من معتزلة واشاعرة ومريدية وسلفية وجهمية، وفيه المحدِّثين المختلفين والمتعديين، وفيه المفسرين وكتاب السيرة على اختلاف مناهجهم ونتائج جهدهم. لم يدعي اي منهم بالعصمة. ومجرد وجود هذا العدد الكبير من التنوع في فكر التراث دليل على حيويته ونشاطه الفكري وقناعته بانه انتاج بشري، لا يدعي بانه احاط بمراد الله عز وجل. قبول الاختلاف ليس مقصورا على السلف بل حتى المحدثين من عصر النهضة امثال الامام محمد عبده، ومصطفي عبدالرازق، وعبد المتعال الصعيدي والشيخ محمود شلتوت وكذلك المعاصرين امثال الشيخ سعد الدين الهلالي بالاضافة الى مفكرين تنويريين كثر. كل هؤلا قدموا اجتهادات لم يجبروا احدا عليها. ولا يمنع ذلك ان يستمر الاجتهاد الى ان تقوم الساعة من قبل علماء ومفكرين ومثقفين لهم قراءات مختلفة للنصوص المقدسة. لماذا نريد ان نقضي على هذا التنوع والثراء الفكري؟ لماذا لا يكون المجال مفتوحا فكريا للحوار والنقاش بدلا من جمود الترهيب وجعله مادة للاقتتال؟ يقول الشيخ محمود شلتوت “أُسْتُخدم الاجماع للترهيب فسكت العلماء خوفا على سمعتهم الدينية فتوقف العلم وحُرمت العقول لذة البحث، وحيل بين الامة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية”، الاسلام عقيد وشريعة ص67.
المشكلة اذا ليست ان هناك فئات اصولية متعصبة تعتقد بان الاخر على ضلال وانها الوحيدة تمتلك الحقيقة وانها الوصية على دين الله؟ لكن المشكلة تبدأ عندما تقوم هذه الفئة بفرض هذه الرؤية اما بالعنف المادي او العنف الفكري وتبدأ في التكفير والزندقة بناء على معاييرها هي او قوة القانون في دولة دينية. هذا نوع من الارهاب الفكري يتعرض له الكثير من مفكري اليوم الداعين للتغير وتجديد الفكر الديني، حتى مع الدعم الذي تلقاه هذه الحركة التنويرية من القيادات السياسية في مصر والسعودية.