نشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الأربعاء ١٢ يوليو ٢٠٢٣ – 02

مقال الاسبوع – التحولات التي مرت بها اوروبا منذ العصور الوسطى انطلاقا من ايطاليا بحثا عن اجوبة لاسئلة فرضتها الازمات، نمت لديها طرح الاسئلة حفز الحوار والنقاش ووضع تصورات لماهي الحياة الطيبة والكريمة . رفضت هذه النزعة التفاسير التي تقدمها الكنيسة للنصوص المؤسسة وبرزت مذاهب وعقائد منافسة ساعدتها المطبعة في الانتشار لتؤسس مرحلة من الاصلاح الديني تبعتها الثورة العلمية ومرحلة التنوير والثورة الصناعية.

https://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1336190

المرسل الى الجريدة

ثقافة الحوار في المجتمعات العربية (4)

طرحنا في المقال السابق (ثقافة الحوار في المجتمعات العربية -3) السؤال الذي طرحه الكثيرون ومازال مطروحا هو كيف تمكن الغرب من تحقيق هذه النهضة، ولماذا الغرب وليس الصين مثلا او الحضارة الاسلامية؟ فماهي العوامل التي ساهمت في نقل اوروبا كونها المنطقة المتخلفة في العالم مقارنة بالحضارة الاسلامية بشكل خاص وتخلفها عن الحضارة الصينية. ونتساءل الى اي حد ساهمت ثقافة الحوار وحرية التعبير ونشر الكلمة والمعلومة والفكرة في خلق هذه النهضة؟

مناقشة ذلك يتطلب النظر الى محطات مرت بها الحضارة الغربية والمؤثرات الرئيسية التي انتجت التحولات وقادت الى التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي، والحركة الاجتماعية الحيوية التي وازنت بين سلطة الدولة وقوة المجتمع. ننطلق من فرضية ان الحضارة الغربية كانت نتاج تحولات واعية لها ارهاصات ومسيرة تحول انتهت الى انفتاح فكري اطلق حوارا وطرح التساؤلات الصعبة والحساسة فانتج معارفا ومناهجا علمية مكنت من السيطرة على المادة والطبيعة في خدمة الانسان والانسانية من ناحية، ومن ناحية اخرى يسرت هيمنته على العالم واستغلال خيراته. دراسة ما حدث في الدول والمناطق التي حققت نجاحا وتقدما مثل اوروبا واليابان وشرق اسيا والصين والهند حتما ستقود الى استنتاجات تستفيد منها المنطقة العربية وتلقي الضوء على دور الحوار والتفاعل بين الفكر والعلم والعمل والنتائج. فهل تتبنى الدول العربية مثل هذا المشروع؟ ام ان الطريق واضح يتطلب فقط ارادة سياسية للتغيير؟

انطلقت الحضارة الغربية الحديثة من ايطاليا في العصور الوسطى فيما سمي لاحقا بالنهضة. فلماذا بدأت النهضة في ايطاليا؟ تميزت ايطاليا بقربها من البحر الابيض المتوسط مما مكنها من التجارة مع الشرق والاستفادة من الحضارة الاسلامية. ساعد في ذلك كون ايطاليا مكونة من مدن “جمهوريات” تجارية قوية مستقلة ومتنافسة. كذلك اكسبها الصراع بين سلطة البابا والامبراطورية الرومانية حرية واستقلال مكنها من تطوير نظام سياسي مختلف. خلق هذا الواقع السياسي والاقتصادي والفكري نخب تجارية ونبلاء في شمال ايطاليا جعلت من المدن سكنا ومركزا لها. كونت هذه المدن حكم ذاتي، ومجالس منتخبة على المستوى المحلي (the commune) فكانت منبرا للحوار وتبادل الاراء ونشر مفاهيم المشاركة السياسية والنظام الجمهوري والحرية، فشكلت بذلك نواة للنظام الديمقراطي كما تطور لاحقا في اوروبا.

بدأت النهضة في ايطاليا كحركة ثقافية ركزت على اهمية التعلُم من الارث الكلاسيكي وتكريس مفهوم “الانسنة”. هناك عدة عوامل ساهمت في بدء النهضة وانتشارها، اولها الحاجة الى اعادة اكتشاف النصوص اليونانية والرومانية (اللاتينية) بحثا عن اجابات للازمات التي واجهتها وما اصابها من مرض الطاعون، وصراعات بين الكنيسة والسلطة المدنية وحروب كونها بين حضارتين البيزنطية والعثمانية، تولدت الحاجة الى احياء الحضارة الكلاسيكية والاستفادة منها في مواجهة الازمات. وفرت هذه النصوص مصدر الهام جديد للفنانين والكتاب والمفكرين. فيسرت العودة للماضي الاستفادة من افضل ما عندهم. ثانيا تطور مفهوم الانسنة (humanism) الذي كان حركة فكرية تُعظم اهمية العقل البشري والتجربة الانسانية والفردانية. هذا التوجه، الذي يعظم من الطاقات والقدرات الانسانية، قاد “الانسانيين” (humanists) الى التشكيك في سلطة الكنيسة الكاثوليكية التي بدت لهم آن ذاك فاسدة وعفا عليها الزمن. لذلك دفع “الانسانيون” نحو الرجوع الى الاناجيل الاساسية ورفض تفسيرات الكنيسة.

ثالثا كون ايطاليا مكونة من جمهوريات (مدينة/دولة) مستقلة متنافسة تحكمها مجالس منتخبة، استفادت هذه الجمهوريات من موقعها الهام القريب من البحر الابيض المتوسط ومن تجارتها مع الشرق الاوسط فتكونت طبقة تجارية ثرية. زيادة الثراء والارتقاء الاجتماعي وسع الطبقة الوسطى في المدن وزاد من التنافس على السلطة السياسية والمناصب، كما مكنها من تقديم الدعم المادي للشخصيات السياسية والفكرية مما حرك الحياة السياسية والمشاركة الفعالة في ادارة الجمهريات. اصبحت فلورنس (احد اهم هذه المدن) اكثر المدن ديمقراطية. ادت هذه البيئة الى جذب المتعلمين والعلماء والتوجه نحو الارث القديم لوضع نظام تعليم يسعى الى استكشاف حالة الانسان. استخدم البعض الدروس من الماضي في الدفاع عن النظام الجمهوري (التشاركي) وخصوصا في نهضة فلورنس. استخدم اخرون الدروس من الماضي في فهم المقدس والاحتفاء بالانسان وتكريمه على انه اعلى مخلوقات الله. وجد جميع الدارسين لارث الماضي خارطة طريق تعينهم على ادارة حياتهم سواء كانت تتعلق بالقصر، او السوق، او الجامعة او ساحة المعركة.

رابعا، في مرحلة لاحقة تم اعادة “اختراع” المطبعة (اختراع صيني) في منتصف القرن الخامس عشر مكن من طباعة الكتب والمنشورات التي ساهمت بشكل كبير في نشر الافكار والمعلومات التي كانت بمثابة الوقود لانتشار فكر ومبادئ النهضة على نطاق واسع. خامسا انتشار الفكر العلماني الذي يرى عدم فرض السلطة الدينية على الدولة او على الافراد. اكتسب هذا الاعتقاد انتشارا وبدأ الناس يشككون في سلطة الكنيسة وحقها في احتكار التفسير ومنح الخلاص بعد ان اتضح فساد كثير من رجالها وبروز عقائد منافسة.

سادسا تاثرت الحركة الفكرية بتداعيات مرض الطاعون (1347-1351) الذي هز الوجدان الغربي، واصبحت حياة القرون الوسطى ضحية لها. ادت الوفيات الى تناقص العمالة في الزراعة مما رفع اجور العمال واضعف الاقطاع وطبقة النبلاء. شكل التحول في النظام الطبقي الاجتماعي الاقتصادي ضربة قاصمة للنظام السياسي والعسكري القائم وساهم في انهاء الاقطاع في اوروبا. كذلك اثر الطاعون في سلطة المؤسسة الدينية، بسبب كثرت الوفيات من رجال الدين، سُمح للعامة القيام بواجبات رجال الدين مما قلل ادعاء التخصص واحتكار الخلاص. مع تزايد الوفيات جراء مرض الطاعون اصبح النبلاء والتجار اكثر ثراءا (نتيجة نصيبهم من الميراث)، مكنهم من الاستثمار وتقديم الدعم للسياسيين والمفكرين والكتاب والفنانين فانتعش الفن والفكر والكتابة وتم خلق اقتصاد استهلاكي. من جهة اخرى ادت زيادة الوفيات الى اليأس من الحياة والشعور بتفاهة الانسان. ادى ذلك الى طرح السؤال: ماذا تعني الحياة الطيبة والكريمة في الحاضر، وليس بعد الممات؟ هذا كان السؤال المحوري الذي سيطر على اهتمام الادباء والمفكرين بالبحث في الموروث عن اجابات. بحثا عن اجابات في الموروث اعاد احياء الحضارة الاغريقية والرومانية في عصر النهضة.

خلال هذه الفترة زاد طرح الاسئلة مثل ماقيمة التعليم وكيف يكون، وماهو تعريف الحكومة الرشيدة، وماهي مبررات الحروب والعنف؟ وماهي محددات قيمة الفرد وفرصه، وما الذي يشكل هوية الفرد والجماعة، وماذا يعني ان تكون مؤمنا جيدا؟ شكلت هذه الاسئلة ميادين الحوار والتداول ومواضيع الادب والفن والدبلوماسية والسياسة وفنون الحرب، وانتهت بمرحلة “الاصلاح الديني” وظهور البروتستانتية اللوثرية كمنافس للكاثوليكية. نتيجة هذا الحوار اختطت اوروبا رؤية وقيم للتجربة الانسانية وماذا يعني ان تكون انسانا، ووضعت بذلك قاعدة لعالم جديد. ادت النهضة الى فكرة ان “الانسان قادر ان يحيا حياة كريمة، وان السعي وراء هذه الحياة الطيبة مسعا نبيلًا”. رفض الخوف والجرآة على طرح الاسئلة كان بداية النهضة والتقدم والازدهار، استفادت اوروبا من هذه الحركة في تطورها اللاحق؟ وظهور الثورة العلمية وعصر الانوار والثورة الصناعية وهذا موضوع لنقاش اخر؟

drmekuwaiti@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *